«خيانة أينشتاين» للفرنسي إيريك إيمانويل شميت: دمار العالم ما بين بائس ويائس
محمد عبد الرحيم
البحث عن معنى الأفكار الإنسانية الكبرى في بساطتها وعمقها هي السمة الغالبة على أعمال الكاتب الفرنسي إيريك إيمانويل شميت، خاصة في أعماله التي تناولت العلاقة بين مختلفي العقائد، كما في «السيد إبراهيم وزهور القرآن»، أو العلاقة بين الإنسان وخالقه، كما في «أوسكار والسيدة الوردية». وفي عمله الأخير المترجم إلى العربية «خيانة أينشتاين»، الذي كتبه شميت عام 2014، تبدو محاولات إنقاذ العالم من الدمار الذي يحيط به، وخطر التعصب والتطرف والإرهاب، الذي يضرب العالم الآن، يوحي به شميت من خلال أجواء الحرب العالمية الثانية، وكارثة القنبلة النووية. هنا يستحضر المؤلف موقف «ألبرت أينشتاين 1879 ــ 1955»، وإرسالة رسالته الشهيرة إلى روزفلت يحثه للإسراع في عمل السلاح النووي، خشية تمكن هتلر من الأمر، بينما ينفذ ترومان هذا الاقتراح، ويلقي بالقنبلة بالفعل، ليس في الصحراء كإشارة تنبيه، بل على بشر، ستظل معاناتهم لعدة أجيال. هنا يعيش أينشتاين في حالة مزمنة من اليأس، وهو يشهد دمار العالم أمامه. صدرت الترجمة العربية للنص المسرحي ضمن سلسلة المسرح العالمي، الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، ترجمة سعيد بوكرامي، مراجعة نادية كامل، وتقديم ودراسة محمد شيحة.
المتشرد
كعادة شميت، حيث يقتصر على عدد قليل من الشخصيات، تحمل أفكاره وتحاول إيصالها في بساطة، وهي حالة دائمة من التناقض كمحاولة لاستظهار وجهات النظر والرؤى المختلفة للحدث. المتشرد هنا رجل فقد ابنه في الحرب، وانهارت حياته بعدها، تركته زوجته، وضاع عمله، فأصبح رفيق الطرقات، إلا أن الأفكار الشائعة والكاذبة في أكثرها، هي التي تحركه، وتجعله يرى الحياة من خلالها، لم يزل الرجل يمجد الأمة الأمريكية/موطنه، ويجد في ابنه مثالاً لواجب وطني، شارة تميّز يحملها عند كل حديث، ذلك رغم بعض من حكمة لم يزل يقبض عليها «ما دمتُ بلا أسرة فلن أحتاج بيتاً، ولمَ أجهد نفسي من أجل الحصول على راتب؟ أنا يا سيدي لم ألحظ مرور الأزمة. لو كنت مقيداً بعمل ومربوطاً بأقساط، بالتأكيد سأكون قد مت عام 1929 وبدل ذلك عبرت كاليفورنيا محدداً الأفق، سيراً على الأقدام ومكان النجوم ساعة النوم. وللعثور على الطعام كنت أتدبر أمري أو أشحذ السكاكين، هناك دائماً سكاكين صدئة تحتاج أن أشحذها».
اللاجئ
وفي لقاء يبدو عرضياً يتقابل المتشرد والعالم الشهير صاحب نوبل/أينشتاين، الهارب من ألمانيا بعد صعود المد النازي، واللاجئ إلى الولايات المتحدة، ويحاول استكمال رسالته الإنسانية بإنقاذ العديد من اليهود الفارين، الذين يريدون اللجوء إلى أمريكا، العديد من رسائل الإغاثة تصله، وهو يحاول. لكنه موضع شك دائم للسلطات، فهو يهودي ألماني لا يؤتمن شره، ورغم كونه غير مُنشغل إلا بكيفية إنقاذ العالم من جنون هتلر، وهو ما سيحفزه على إرسال رسالته إلى روزفلت، وحثه إلى الإسراع لاستكمال السلاح النووي، حتى لا يمتلك هتلر وحده هذا السلاح، ومن خلال هذا التوازن في القوى، يمكن خلق حالة من السلام تسود العالم. هكذا كانت أفكار أينشتاين. وفي حوار جدلي بينه وبين المتشرد صاحب وسام التضحيات، يوضح أينشتاين المفاهيم التي تضحك بها الحكومات على شعوبها، وعلى رأسها مفهوم الوطنية، فيقول «الوطنية مرض طفولي، جُديري الإنسانية، الكائن الذي يبتهج بالمشي في طابور على إيقاع موسيقى مُفزعة لا يستحق إلا الازدراء… كي تنتمي إلى مجتمع من الخرفان يجب أن تكون خروفاً… إنها بطولة تحت الطلب، بطولة مشروطة، يا لها من مهزلة».
التوثيق والخيال الفني
يحاول النص المسرحي أن يجسد المأزق الذي عاشه أينشتاين بعد إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما وناغازاكي، يحاول التخلص من ورطة العلم ومدى نفعه للإنسان، وهو الذي يعلم تماماً أن العلم في الغالب في خدمة السلطة، خاصة إذا ما تعلق بسلاح مثل هذا. استعان شميت بالعديد من المواقف الحقيقية للرجل، وكذا بعض العبارات، وهو ما أعاق كثيراً جماليات النص، وجعله إلى المباشرة أقرب، حتى أن روح الكاتب تغيب إلى حدٍ بعيد، كما كانت في نصوصه السابقة، أينشتاين هنا آلة كلام، بخلاف بعض العبارات التأملية التي يختصر بها حياته، كما في معادلته الرياضية الشهيرة التي توصل إليها، فهو كإنسان = E=mc² (المعادلة التي أدت في ما بعد إلى اكتشاف الطاقة النووية). من ناحية أخرى حاول الكاتب خلق رابط ما بين الشخصيتين، يتمثل في عميل الجهاز الأمني، الذي يحاول تجنيد المتشرد للتجسس على أينشتاين وأفكاره، فالواجب الوطني يحتم عليه/المتشرد القيام بهذا العمل. رجل الأمن هذا الذي يقفز فرحاً عند إلقاء القنبلة، ويصنف المخلوقات حسب أجناسهم وألوانهم، فالألمان لا يستحقون الحياة، وعند المقارنة بينهم وبين الزنوج، يبدو الزنجي الأمريكي في درجة أرقى، لكن الرجل الأمريكي الأبيض هو الأول في التصنيف، الذي يستحق وحده الحياة. هكذا إشارات بسيطة وعابرة لما يحدث الآن في العالم، فبعد هتلر جاء الروس، وبعدهم جاء المسلمون، هناك عدو يجب تواجده، ويجب أن تصاغ الحياة من خلال محاربته، هنا تصاغ القيم أيضاً وكيفية الاختيارات، بينما السيد أينشتاين لا يملك إلا اليأس من هذا العالم، ويصرح في سخرية وفي اطمئنان تام.. بأن الإنسان لم يخض حرباً عالمية رابعة، وسيكتفي بالثالثة، فهي آخر الحروب، لأنه وقتها سيكون أنهى وجوده على سطح الأرض، واستمتع براحته الأبدية.
(القدس العربي)