أيام ما كانت «جيرمين» تحكي في السياسة!
حسن داوود
جيرمين، التي توقّف عقلها، عند ماكان عليه في لحظة سابقة، حين صدمتها سيارة وهي طفلة، تسيء استخدام الكلمات أو تستخدمها بكثير من التصرّف. كانت مثلا تقول «انعزالي» حين تقصد أن تهجو شخصا، و«وحدوي» حين تريد أن تمدح آخر، وذلك تأثّرا بناصرية ابن شقيقتها. وإذ انتقل هذا الأخير إلى التزام سياسي آخر، أي من الناصرية إلى الماركسية، راحت تصنّف المتردّدين على البيت بين «بورجوازي»، تطلقه على كل من لا تستسيغهم، وغير بورجوازي على من ليسوا كذلك.
هي السياسة آنذاك، في سنوات الستينيات، أخذت جيرمين وإن بأقلّ تأثّر ممكن بها. تلك الكلمات القليلة، كانت كافية لتُدخل إلى عقلها الصغير التشوش الذي أصاب كثيرين سواها. خذ وسيم مثلا، ذاك الذي لم تستطع السياسة أن تنتصر على فطرته ومنطقه حتى بعد أن صار ماركسيا هو الآخر: ولماذا الحقد، راح يقول وسيم متعجبا من كلمة «الحقد الطبقي»، هو الطيب القلب في الأساس. وإذ تعدى تحول كلمة «بورجوازي صغير» إلى أن تكون شتيمة عند سواه، لم يستطع هو أن يفهم لماذا تألّفت هكذا، «إذ ما ذنب الطفل إذا كان والده بورجوازيا؟».
هم أولئك الذين وضعتهم السياسة وأحزابها على مسافات متفاوتة من سوء فهمها، أو من فهمها، يطيلون الوقوف عند كلماتها. عالم السياسة المعقّد المتشابك، هناك ما بعد الكلمة، متروك لآخرين هم أكثر فطنة منهم، وإن باتوا في مدار السخرية بعد فوات ذلك الزمن. أما هم، السذّج أبناء الضيع، فيلهون أحيانا بالكلمات، بوقعها وحده ورنينها، كمثل عليّ المصفّق على طريقته لزعماء عدم الانحياز، لكن انطلاقا من حبّه لأسمائهم غير المألوفة، خصوصا اسم جوزيف بروز تيتو، متوقّفا عند «بروز»، وكذلك عند كلمة «جواهر» في جواهر لال نهرو، وإن أضعفتْها قليلا كلمة «لال» التي لم تكن تعجب عليّا أبدا. أما ما أدى به تعلّقه بالكلمات فحشره «ماكميلان» رئيس الحكومة البريطانية عهدذاك مع زعماء عدم الانحياز بسبب إعجابه بكلمته واسمه.
وفي أحيان يتعدّى الأمر اللعب بالكلمات، فبين القصص واحدة تستعر فيها مفاضلة الأهل بين ولديهما، جميل ومارون، حيث الأوّل دخل في الأحزاب، واستمّر الثاني على النسق الذي أراده له الأهل وأعدّوه له، فصار طبيبا معروفا، فيما بقي أخوه ملازما صورة الحزبي التي أمعن الزمن في الكشف عن جانبها الكوميدي، أو في تشكيلها كوميديا وكاريكاتيريا. هي السياسة نفسها على كل حال لا تتردّد في اتخاذ مسالك عجيبة، كأن يدعى خوري الضيعة، في إحدى القصص، إلى الفصل بين مقاتلين سريلنكيين احتموا بقوى على الأرض، فسلّحت حركةُ فتح السنهاليين منهم، كما قيل للخوري، وسلّحت الصاعقة التاميل.
وليس على الكاتب أن يجري تحويلا قسريا فيما هو يجنح بالسياسة، والحرب من ثمّ، إلى الكوميديا ففيهما، في أصلهما، يكمن اللامعقول. من مظاهر ذلك رواية أحدهم عن خطفه لكميل المسيحي، ليقايض به قريبا له مسلما اختطفه مسيحيون.
وفي القصة التي هي الأكثر امتلاء بالتفاصيل من قصص الكتاب الأخرى، نرى كيف يظهر الخاطف أمام نفسه مؤدّيا دور الخاطف، وكيف يؤدي المخطوف دوره كمواطن لا طائفي إلى حدّ رفضه لإطلاق سراحه وتوسله ليعـــــمل مرافقــا لخاطفه.
وإذ يؤدّي هؤلاء أدوارا فرضتها عليهم السياسة، أو الحرب، يؤدّي سواهم، في قصة أخرى، أدوار الخروج من الإرث الوهمي الذي أتاهم من وعي الأهل المتأرجح بين السذاجة والخرافة. فبعد أن تجاوز رفيقان مثلا، بالعلم والثقافة التي حصّلها كل منهما، عادات أهلهما، ها هي حكاية البصلة التي أدت إلى اختلاف أولئك الأهل تعود بهما إلى أن يقتتلا من جديد، كأن ما كان من اختلاف الأهل وتقاتلهم على أحقية امتلاك البصلة يعود بين الرفيقين حيا.
ليس ما عرف بالوعي الحزبي إلا مرحلة من مراحل وهم الانتقال، الذي سرعان ما يبدّده وهم يأتي بعده.
ربما يمكن أن يُكتب كتاب آخر عن كيف انتقد من هم «جيرمين وأخوتها» ما كانوا عليه في أيام الحزبية. أما الحزبي القديم، في «مونولوغ حزبي خالص» فيجد أنه بات الآن بلا حيلة إزاء ما جاء به العالم من أفكار جديدة. لقد عاد للتفكير بإنشاء حزب يساري، لكنه يجد نفسه عاجزا عن إيجاد أعضاء له. لقد تغيّر العالم بكلّيته عن ذلك الزمن (الذي تدور عليه معظم قصص الكتاب). بدأ التغيّر، كما يلاحظ صاحب المونولوغ نفسه، باللغة، فبدلا من «المناضل» بات لدينا «الناشط»، وهذه الكلمة الجديدة، في نظر اليساري القديم، كأنها جُرّدت من كل ما يبعث على تأدية أدوار للتاريخ. كلمات مثل بورجوازية وإمبريالية وتحرير فلسطين باتت، حسبه، غائبة ولا تتردّد على أي لسان. ثم أن هؤلاء الجدد، ومنهم ابنه الذي يصف نفسه بأنه يساري، يقولون إنهم يكرهون العنف، ذاك الذي كان في أيامه «قاطرة التاريخ». ثم هناك الدفاع عن حقوق المثليين، أولئك الذين باتت علينا أن نستبدلهم، بحسب المناضل القديم، بالجماهير إلخ.
قصص حازم صاغية أقرب إلى رثاء فكاهي لمرحلة انطوت. تفاصيل كثيرة وشخصيات توزّعت القصص فاختصت كل منها بشخصية قد لا يخفى أحيانا مرجعها الواقعي. قصص ضاحكة ساخرة إلى حدّ أن أغلب شخصياتها، أبطال القصص، يموت موتا غير مأساوي، من دون أن يغيّر ذلك الموت في مسارها الكاريكاتيري. كلهم ماتوا، توفيق في قصته، وكذلك وسيم في قصته، وكذلك مارون وعليّ (صاحب ماكميلان) وجيرمين التي ضاعت في نيويورك في يوم وصولها إلى هناك، ولم يعثر لها على أثر، وكذلك اليساري القديم الذي أقعده مرضه عن حضور أول اجتماع تأسيسي لحزبه الجديد.
٭ «جيرمين وإخوانها» قصص لحازم صاغية صدر عن دار الساقي في 222 صفحة، 2017.
(القدس العربي)