الروائي جهاد أبو حشيش يفكك أنسجة الإرهاب
نبيل سليمان
هل الإرهاب عماء ديني؟ هل هو ردّ على التغول الغربي أم على فجور الديكتاتوريات أم على الانحراف عن جادة الأولين؟ هل الإرهاب مؤامرة صهيونية أم عالمية؟ هل هو طمع بالمال أو وحشية أو هوس بالمال والجنس؟
على ما هو فردي وشخصي أكثر من هذه الأسئلة، تشتغل رواية جهاد أبو حشيش «ذئب الله» تاركة الأسئلة الأكثر تجريداً إلى مقامها الأَوْلى خارج الرواية. وإذا كان حضور الإرهاب في الرواية قد أسفر في ثلثها الأخير، فلأنها اختارت أن تقاربه فنياً، وذلك عبر البناء المحكم للشخصية الروائية المحورية عواد ولسائر الشخصيات التي لها صلة ما بعواد، وعبر اللغة والبلاغة الروائيتين أيضاً.
تبدأ الرواية بما تخاطب به مليحة الأحمد عواد الذي قتل زوجها، وأرادها زوجة له، لكنها طردته، وسلطت عليه لسانها الشعبي بالدعاء والتحقير. وبعد مليحة جاءت تاليا تروي أنها ولدت لأب عربي لم تعرفه، لكن أمها اليهودية حدثتها أنه كان يضربها ويأخذ مالها، كأنه نسخة عن صديقها اليهودي، وكأن الرجلين شربا من كأس التوراة. وتاليا التي ستغيب طويلاً قبل أن تظهر في منتهى الرواية، تتحدث عن شبه عواد بها: لا ينتمي لشيء، لكأنه قادم من الفراغ أو ذاهب إليه. كما تشعر أنها ذئبة مثل عواد، ولا تعني لها يهوديتها إلا بما تيسر لها من أفضلية وصدارة. وتاليا لا ترى حديث البطولة والتضحية غير إكسسوارات خادعة لتجميل فكرة التسلط وجعل الأغبياء يقبلونها. وهذه اليهودية المتمركزة حول ذاتها «أنا فكرة نفسي» ترى الحرب بين الإسرائيلي والفلسطيني مستنقعاً من الكراهية، والطرفان بحسبانها غبيان لا يريان من الحياة إلا الموت. وتحفظ تاليا وصية أمها التي كانت تعمل في حانة أن تبتعد من الطوائف، فالطائفة سيف، إن تمكن منك قتلك بحجة الجنة. والأهم في قصة تاليا هو ظهور مايكل في حياتها، وارتباطها بهذا الذي هو من أهم سماسرة تجارة الأسلحة في شبكة تترامى من الأردن ولبنان وفلسطين إلى ألمانيا وأميركا، ولها بالمافيا شبه.
رواية الأصوات
على غرار اللعبة السردية في»رواية الأصوات»، تتولى كل شخصية في الرواية السرد بضمير المتكلم. لكن السارد يشارك أحياناً في اللعبة التي يظل عواد قطبها، بدءاً من طفولته، وبخاصة تربية جدته عصرية له. وكانت الجدة قد أنشئتْ كفارسة. وفقدت ابنها، وقبل ذووها بالصلح مع قبيلة القاتل، على أن يزوجوا ابنتهم الذلول لشقيق القتيل. وتبدع الرواية في بناء شخصية عصرية التي يتأكلها الثأر. كما تبدع في بناء ضحيتها الذلول التي تلد عواد، لكن عصرية تنشئه على كره أمه حتى ليقتلها في فتوته، فيلجأ إلى معسكر لفتح، ويتطوع فدائياً في فرقة الأشبال. لكن الجريمة تلاحقه، فيسجن في إصلاحية إربد. ولما فرّ من السجن إلى المعسكر، أعاده قائده، لكن العودة كانت إلى سجن إربد هذه المرة، حيث تعلم أن عليه أن يكذب ليقتل الوقت، وإلا من أين سيأتي بالحكايات والبطولات؟
بين تجار السلاح– ولكل منهم حراسه من القتلة– والمهربين، كان التشكيل الحاسم لشخصية عواد ولحياته، حيث اكتشف التآمر على الحاج أبو ناصر، وأنقذه، فصار بمثابة ابن له، على إيقاع الصراع الدامي بين السلطة الأردنية والفدائيين الفلسطينيين فيما عرف بأيلول الأسود عام 1970. وقد صدر، من بعد، العفو عن السجناء، لكن عواد ضاق بالحرية تحت وطأة أثر قتله لأمه، ومضى إلى قائده الفتحاوي الذي سيقتل في غمرة انسحاب الفدائيين عبر إربد إلى سورية. وهكذا بات عواد ذئباً وحيداً لا يعرف إلى أين يمضي، فتخلص من سلاحه ولباسه المرقط، وخبأه الفلاحون خشية بحث الجيش عن الفدائيين، حتى إذا عثر عليه والده، خبأه في مغارة إلى أن يسّر له الظهور، فعاد إلى إربد ليعمل أجيراً في فرن، ويقيم بجوار شقيقته، وتبدأ في الرواية قصة جديدة له مع جارته أم فراس. وكما في سائر اللحظات الحميمة المماثلة تتألق المشهديات، ويتقد السرد وهو يتغلغل في أعماق عواد وأم فراس.
من إربد إلى عمّان تتقاذف الدروب بعواد الذي تتنبأ له الغجرية «طريقك مفروش بالدم يابن المقروطة». ويُزجّ به في سجن المحطة جزاء على سرقته لأخته. وفي السجن يلتقي بالفدائي السابق أبو بكر الذي عاد من بيروت لأنه اكتشف أن القيادة الفلسطينية «شوية حرامية على راسنا». وبعد السجن يلتحق عواد بأبو ناصر وتجارة وتهريب السلاح في مشهد يتألق فيه الحوار المسرحي الوامض، أما غطاء عمله الجديد فهو «البيارات» حيث ستكون قصة جديدة لعواد مع سارا أرملة الشهيد في معركة الكرامة، ومع ابنتها الطفلة منال التي ستنافس تاليا اليهودية على الصدارة في منتهى الرواية.
وقائع
يتزوج عواد، ويسمي ابنته باسم جدته، وتزدهر تجارته بالسلاح، لكن حرب 1982 ستخرج بالفدائيين من بيروت، ويتهدد مصدر السلاح، ليصيح عواد «والله حرام، أرزاق ياناس يا عالم، كم عائلة تأكل من وراء هذا الرزق؟». لكن الأمر يأتيه ممن هو أعلى بمنع البيع والشراء إلى أن يأتي الأمر بالسماح. وهكذا تمضي سبع سنوات، لتبلغ الرواية التسعينات، ويصادف عواد في إربد منال التي شبت وصارت تعمل في جامعة اليرموك، وأدركت أن جمالها هو جوهرتها ورصيدها– كما ستسرد في فقرتها الخاصة– وأن عواد فرصة عمرها. وقد علمها فقرها أن تكون أنثى بامتياز، فتروي نهم عواد الحيواني المتوحش لقاء ما يغمرها به من الثروة. وفجأة يعتقل عواد في سجن الجويدة، حيث يتصل به أصدقاء صديقه الماركسي السابق أبو بكر الذي انقلب إسلامياً، ويتبين أن الاعتقال الموقت مدبر، ومن دبروه يخرجون عواد بعدما اتفق مع الإخوة على أن يورّد لهم السلاح، وأولاء ليسوا إلا جماعة إسلامية، ربما كانت على صلة مع القاعدة.
تتدفق الدولارات على عواد، وفيما تتدثر الرواية بالبوليسية، يُطلب إلى بيروت حيث يلتقي بالسيدة التي تحلّه محل أبو ناصر، مشددةً على أن إسرائيل لا بد أن تضمن أنها ليست مستهدفة بالسلاح الذي سيأتي منها، تلبية لطلب عواد الذي يتاجر مع جماعة إسلامية، قد تكون قريبة من القاعدة، أما الأهم، فهو أن هذه اليهودية الفاتنة الجمال ستندفع إلى عواد كأنما تفترسه. إنها تاليا التي ستشعره طوال السنتين التاليتين أنها جنة فصّلتْ من نار. وهنا يبدو أن اندفاعة تاليا تتطلب مقداراً أكبر من الإقناع، إذ جاءت لاهثة ومباغتة، إلا إن كان التعويل على أنها قد كانت الصوت الثاني في الرواية، بعدما افتتحتها مليحة الإبراهيم، وهو تعويل غير كاف.
يمضي عواد في لعبة توريد السلاح للجماعة فيرخي ذقنه، ويأمر منال بالتحجب. وفي قريته الخربة يستقطب الرجال الذي صاروا ينادونه مولانا ويستفتونه بما عصي عليهم، إلى أن تأتي الضربة القاضية، فابنه الطالب الجامعي يرافق أصدقاءه إلى عرس في فندق، وتذهب قدمه وذكورته ضحية تفجير الفندق في سلسلة التفجيرات الثلاثة الشهيرة التي أعلن أبو مصعب الزرقاوي عن مسؤولية القاعدة عنها. وبذا جنت على نفسها براقش، ولن يكون لعواد من يرثه.
هكذا بدا كم هو الإرهاب أنسجة معقدة. وعلى رغم ما بدا في منتهى الرواية من عجلة فقد أبدع جهاد أبو حشيش في إسناد السرد غالباً جداً إلى الشخصيات، وفي بناء الشخصية على نحو يجعلها معرفة مهما كانت نكرة أو ثانوية. وبتعدد أصوات الرواية تعددت لغاتها، فكان اللسان الشعبي اللاذع والحاذق سواء في دعاء وسباب مليحة أم فيما تغني عصرية أو الذلول من الشعر البدوي
وبالأهمية ذاتها، إن لم يكن أكثر، كانت أيضاً اللغة الشعرية حيث اقتضى المقام، وجهاد أبو حشيش جاء إلى الرواية من الشعر، وقد كان للغة الشعرية امتيازها في روايته «بيمان، درب الليمون»، وهكذا، كما ظفر الشعر بجهاد أبو حشيش، ظفرت به الرواية.
(الحياة)