مريم توفيق وعشق مختلف جدا

أحمد فضل شبلول
قد يحتار المرء في تصنيف تلك النصوص الواردة في كتاب “عشق مختلف جدا” للكاتبة مريم توفيق، هل هي قصائد شعر، هل هي قصص قصيرة، هل هي جزء من السيرة الذاتية، أو فصول من رواية لم تنته بعد، هل هي مقالات، هل هي مونولوجات أو ديالوجات. هل هي “مشاعر وأشعار من مصرية عربية قبطية أرثوذكسية”، كما وصفها الأب بيسنتي أسقف حلوان والمعصرة في الصفحة الخامسة من الكتاب الواقع في 160 صفحة؟

وأنا أعتقد ان الكتاب يشمل هذا كله سنجد نصوصا شعرية بيتية موزونة مقفاة، وسنجد نصوصا شعرية تفعيلية، ونصوصا شعرية نثرية، سنجد قصصا قصيرة، ولمحات من السيرة الذاتية، سنجد أيضا مقالات أدبية، ومشاعر متأججة، وأنواعا من المونولوجات العشقية، والديالوجات اليومية، وغيرها من فصول الأدب ونصوص الكتابة عبر النوعية.

سنجد أربعين نصا أدبيا رفيعا من النصوص التي تتميز باللغة الرصينة الهادئة البليغة المتمكنة المنسابة، كما النهر المتدفق الذي يزين الحقول ويروي الأرواح والصدور. وكل هذه النصوص تصدر عن قلب محب لمصر وللغة العربية، عاشق للخير والجمال والحق والثورة ولتراب هذا الوطن الغالي كما سنرى.

في أول فصل من فصول الكتاب سنجد الشعر حاضرا بقوة في قول مريم توفيق تحت عنوان “تأملات”:

“ذبتُ بحرفٍ كبّلني، أوقدني، جلجل في كفي، أهداني وردا من شوك، وجواد العتمة يخطو” .. وحتى قولها: “يا وطني يا ساكن كل الأحياء، ها أنذا بين جدارٍ وجدار، كحروف جفّت، تتساقط من حولي، أنزلق الآن غريبا نحو القيعان”.

والشاعرة ليست حريصة على تقطيع سطورها الشعرية من خلال القراءة البصرية، ولكن تكتبها دفقة واحدة، كأنها تكتب مقالا، أو قصة قصيرة.

ومن القضايا التي تثيرها مريم توفيق في هذا الفصل موضوع أغنية “يا ليلة العيد أنستينا” لكوكب الشرق أم كلثوم، وهل كانت ستغضب لو تُذاع هذه الأغنية في أعياد الميلاد والقيامة؟

وأرى أن الكاتبة عندها كل الحق في هذا المطلب خاصة عندما نعرف أن هذه الأغنية لم تغنها كوكب الشرق خصيصا لأعياد المسلمين، ولكن غنتها في عيد جلوس الملك فاروق على كرسي الحكم. حيث أنعم الملك فاروق الأول على أم كلثوم، بوسام الكمال ليصبح لقبها “صاحبة العصمة” بعد ما غنت له هذه الأغنيه في حفل بالنادي الاهلي في 17 سبتمبر 1944.

وقد سبق أن غنت تلك الأغنية في فيلم “دنانير، إنتاج 1939وهي من كلمات: أحمد رامي وألحان: رياض السنباطي. وفي هذا الفيلم سنجد أن كلمات الأغنية موجهة لهارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي، كما سنجد نهر دجلة بدلا من نهر النيل:

”يا دجلة ميتك عنبر ** وزرعك فى الغيطان نور”

”يعيش هارون يعيش جعفر ** ونحيي لكم ليالي العيد”

ولكنها قالت في النسخة الجديدة عام 1944:

“يا نيلنا ميتك سكر ** وزرعك فى الغيطان نور

تعيش يا نيل ونتهنى … ونحيي لك ليالي العيد”

إذن ليس هناك ما يمنع على الإطلاق من أن تُذاع هذه الأغنية في أعياد الميلاد والقيامة في مصر، كما اقترحت الكاتبة مريم توفيق، وأتمنى أن يُستجاب لاقتراحها، فتلك الأغنية تشيع الفرح والسرور والإحساس بالعيد إيا كان هذا العيد، عيد وطني، أو عيد أضحى، أو عيد قيامة، أو عيد ميلاد، المهم الإحساس بمشاعر العيد المختلفة عن أية مشاعر أخرى.

وكما بدأت الفصل الأول بالشعر تنهيه بالشعر فتقول على الطريقة البصرية نفسها:

“هنا نحيا بأعراس الربيع، فخيوط النور تطفو فوق أحلام الصقيع، وغروب الشمس يحكي مطلع الشمس البديع .. الخ”.

في الفصل التالي مباشرة “إلى أم النور .. سيدتنا مريم العذراء (عليها السلام) نلاحظ لغة مختلفة عن لغة النص السابق، فهنا يعلو عنصر المناجاة الشعرية للسيدة مريم العذراء “قرأتُ وجهك في رحيق الشمس بالحنان يشرق”. و”يا مريم، ويا لغربة المكان المبهم”.

وفي النص الثالث “السيدة زينب (رضوان الله عليها) وروحانيات متجددة” تربط الكاتبة بين مريم العذراء والسيدة زينب في قولها:

“إني أراك والعذراء تشيدان ممالكا من النور والحب، تزرعان في ربيع أيامنا الورد، ترددان أنشودة اللقاء بالإيمان والسلام”. وتؤكد على هذا الربط في قولها: “فلنجدد العهد يا مريم .. يا زينب .. هنا إنجيل هنا قرآن، يبددان الخوف، لحنا أنقى وأطهر”.

وهدفها النهائي هو مصر .. مصر التي يرفرف القلب بحبها.

ثم إلى العالم الجليل صاحب المقام الرفيع إلى الطيب الإنسان حيث نقرأ مقالا يقطر محبة ومودة واحتراما وتبجيلا لفضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب الذي تصفه بأنه “نبع من كف الرحمة الإلهية”، “فاجتمعنا أقباطا ومسلمين على محبته”.

لا تنسى مريم توفيق أنها مواطنة مصرية في الأساس، تعيش مشاعر الإنسان المصري بغض النظر عن دينه أو معتقداته الفكرية، لذا تجئ فرحتها الطاغية بعروسة المولد، وحَبّ العزيز، والدوم، والحلاوة بشعر (في مولد سيدي إبراهيم الدسوقي)، وأكياس الفول السوداني، لكن تظل حلاوة المولد وخاصة مولد السيد البدوي في طنطا ومولد القديس الشهيد مار جرجس الروماني بميت دمسيس، والشهيدة القديسة الست جميانة بمدينة بلقاس دقهلية والقديس أبانوب بنبروه، هي أهم الموالد لدى الكاتبة، وفي هذا تتألق صفحات السيرة الذاتية فتقول الكاتبة: “أعشق عروسة المولد والتي كنت أبكي إذا سقطت مني دون قصدٍ فتتناثر قطعا صغيرة على الأرض، فكان حضن أبي يهدئ من روعي” حيث يصعد إلى النص ضمير المتكلم، وتبرز الذات في مواجهة المجتمع، وتنتقل هذه الذات لتحاور ذوات أخرى، “وها هي مريم حفيدتي تضع كفها الصغير بين يدي وقد ورثت عني عشق الحمصية والسمسمية وكلما هاتفتها يأيتي صوتها (يا تيتة عايزة عروسة بمبي).

ومن رحاب المولد النبوي الشريف إلى رحاب ليلة القدر وليلة في حب “سيد الكونين”.

وتذكر الكاتبة في فصول أخرى – ضمن تقنيات السيرة الذاتية – كيف تمت دعوتها للمشاركة في مهرجان شعري في ذكرى المولد النبوي الشريف، وكيف شاركت في ميدان التحرير أثناء أحداث ثورة 25 يناير 2011، راصدة كيف ضج التحرير بالثوار صارخين “ارحل” مؤكدة أن الأقباط كانوا في أوائل الصفوف محطمين خوف السنين، مطالبين بالحرية والعدل ينادون كفانا حرمانا وإذلالا، مشيرة في حوارها مع الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب إلى قوله: لا داعي للخوف، مقدساتكم نحميها ونحميكم لا تخافي من ألف تنين، الله خير الحافظين”.

وعليه تسطّر الكاتبة قصيدتها العمودية من بحر البسيط المهداة للإمام قائلة فيها:

تحية الحب والتقدير أكتبها ** من روضة الشعر أهديها إلى العَلَمِ

وشيخُنا الفذُّ قد ضاء الزمانُ به ** أنار بالعلم آفاقا من الظلمِ

إني أتيتك بالأفكار أرسمها ** شعرا من القلب يُعلي شامخ الهممِ

ولعلنا نلاحظ تأثر الشاعرة بروح قصيدة البردة للإمام البوصيري أو نهج البردة لأمير الشعراء أحمد شوقي سواء في إيقاع البحر البسيط أو قافية الميم المكسورة أو بعض مفرداتها اللفظية.

ومن الإمام أحمد الطيب، إلى المفكر الإسلامي كمال الهلباوي الذي أخّرت الكاتبة ذكر اسمه حتى منتصف المقال لتحقق نوعا من التشويق والإثارة الأدبية، ثم إلى البابا الأنبا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وقصيدة من بحر الكامل بعنوان “اختيار السماء” تقول في مطلعها:

هذا اختيارٌ باركته سماءُ ** نورُ المسيح عليه والأضواءُ

يا رأس ملّتنا وراعي شعبنا ** طُوبى لشعبٍ أنت فيه ضياءُ

وهنا نتذكر همزية البوصيري في مدح سيد البرية وقوله:

كيفَ تَرقَى رُقَيّك الأنبيَاءُ ** يَا سَماءً مَا طَاولتهَا سمَاءُ

لم يُسَاوكَ في عُلاَكَ وَ قَدْ حَا ** َلَ سَنًا منكَ دُونهُم وسَنَاءُ

مع ملاحظة أن همزية البوصيري جاءت من بحر الخفيف، ولكن اشتركت القصيدتان في روي الهمزة المضمومة، وفي المعجم النوراني.

ومن هنا يُطل علينا الفصل التاسع تحت عنوان “جلسة إنسانية جمعتنا في حب الرسول” والذي أفردت فيه الكاتبة قصيدة في مدح للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهنا نتذكر شعراء مسيحيين مدحوا الرسول الكريم في العصر الحديث من أمثال: وصفي قرنفلي، وجورج صيدح، وجورج سلستي، ومحبوب الخوري، والشاعر القروي رشيد سليم الخوري، وخليل مطران، ومارون عبود، وإلياس فرحات، وعبدالله بوركي حلاق، وجاك صبري شماس، وإلياس قنصل، وشبلي الملاط، وغيرهم.

ولعلنا نلاحظ أن الشعراء السابقين كلهم من الشام أو من سوريا ولبنان، وأنهم شعراء ذكور يكتبون القصيدة العمودية بإجادة، لذا تأتي الشاعرة مريم توفيق لتكسر القاعدة في ثلاثة أشياء: أولا أنها مصرية، ثانيا أنها شاعرة أنثى، وثالثا أن قصيدتها ليست عمودية ولا حتى تفعيلية ولكنها قصيدة نثر تقول فيها:

“يا نبع عطاء وحنان .. يا شاهدا ورحيقا وضياء، لك القنديل والقربان، التواشيح والتراتيل، فيحيط بنا الزهو، عشق المصطفى لحن وشدو ليس فيه زيف” .. الخ.

ولا تنسى مريم توفيق أن تضم كتابها فصلا عن البابا شنودة الثالث يحمل عنوان “قنديل يشع سلاما”، وهو كما نعرف مفكر وشاعر ورجل دين من طراز رفيع لا يتكرر، وتهديه قصيدة من بحر الكامل.

ثم تعود الكاتبة إلى فن السيرة الذاتية في فصل عن “الأبلة أسماء” أو الحاجة أسماء عبدالفتاح معلمتها في مدارس المنصورة. وذكر حكاية الممرض رمضان حارس الحضانات الأمين الذي خافت منه الكاتبة في أول الأمر كونه ملتحيا وبين يديه حفيدتها “مريم اندراوس” فأصابها ذلك بالهلع، ولكنه كان تقيا، وعندما حاولت الجدة أن تدس في جيبه حلاوة شفاء مريم الحفيدة رفض رفضا باتا، ثم صار صديقين بعد ذلك وتعيده ويعيدها، وعندما تزوج وصار أبا لابنتين سمى إحداهما مريم.

أما كتابتها عن أبيها توفيق “أبي توفيق ما أروعك” فكأنه فصل في رواية السيرة الذاتية الشيقة.

إنه كتاب شيق استمتعتُ كثيرا بصحبته وقراءته شعرا ونثرا، ومعنى ومبنى، شديد المصرية، يكشف بجلاء عن معدن هذا الشعب الذي لا يقبل بأرضه بديلا.

ونختم بقول الكاتبة: يا أصدقائي تلك لمحة من مصرنا العزيزة مصر التي لا تقبل الخنوع والهزيمة، مصر التي صانت عروبتها ولم تخضع لغاصب، مصر التي ضحت وأعطت للعروبة دعمها في كل جانب، مصر التي سالت دماء شبابها من أجل أحلام العرب، أهديها حبا تؤصله الحضارة، مصر التي حمت محبتنا بقلب من ذهب”.

(ميدل ايست أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى