السعودي جاسم الصحيح: الإيقاع يحرسُ قصيدتي من الوقوع في فخِّ النثرية

منى حسن
يسعى الشاعر السعودي جاسم الصحيح من خلال قصيدته إلى خلق عوالم من الجمال، الذي يحمل بين دفتيه أسمى معاني الحب والسلام والتصالح مع الآخر، بعيداً عن العالم المتناقض من حوله. وهو كما يصرح دوما متصالحٌ مع الأشكال الشعرية المختلفة، لكنه منحازٌ للإيقاع في نصه الشعري الذي يتعانق فيه الشكل والمضمون مُجسداً لوحة شعرية محتشدة بالأسئلة الوجودية والصور غير التقليدية، التي يكاد يبصرها من يقرؤها، ونصًا يغري بالقراءة والتأمل، تسللت الصوفية إليه مانحة إياه بعداً فلسفيا عميقا ورِقةً يلمسها كل من تصافح عيناه حروفه. والقارئ له لا بد أن يقع في فخ قصيدته عاشقاً ومتيماً لإبداعه المتجدد مع كل نص. يُعد من نخبة شعراء الفصحى في السعودية والوطن العربي. صدرت له أكثر من عشرة دواوين أبرزها «ما وراء حنجرة المغني»، و«نحيب الأبجدية»، كما صدرت أعماله الكاملة في ثلاثة مجلدات. التقيناه عبر أثير موشح بالشفافية فكان هذا الحوار:
■ حدثنا عن تفتح عيون الطفولة الشاعرة في الأحساء، متى نما بروحك شجر الكلام؟ وما الذي دسه النخيل في جيوب طفولتك من نجوى وحلوى؟
□ يتكرر السؤالُ عن البدايات، وكأنَّ الشاعر يستطيع مغادرةَ بداياته. أعتقد أنني ما أزال في البدايات، وما الثلاثة عقود الزمنية التي مارست خلالها الشعر إلا محاولات جادة في التورط أكثر في البدايات والانتماء الأعمق إليها. لا يمكن للشاعر أن يغادر البدايات، وإلا لم يعد شاعرا. البدايات هي البئر الأولى التي نمتاح منها حقيقةَ مشاعرنا للكتابة، ومع كلِّ قصيدة نرانا مشدودين أعمق إليها، وإلى إلهاماتها التي لا تنقطع. الشاعر الحقيقي هو الشاعر المبتدئ دائما، هو مبتدئ مع كلِّ قصيدة جديدة من فرط ما يحتاج إلى طفولته في صناعة غده الشعري. وإذا كانت القراءة هي العتبة الأولى للدخول في بيت الكتابة، تصبح بدايتي منذ نعومة الكلمات على شفاهي، ومنذ طفولة اللغة على لساني إلى الآن. هناك تفتّحت سنابل الوعي الأوّل وابتدأ هاجس البحث عن الذات يطاردني، وهنا ما زالت المطاردة مستمرة. الشعر هو حصان هذه المطاردة في كلِّ الأوقات. كان الشعر بالنسبة لي هو الخيار الأول والأخير من بين كلِّ أشكال الفنون، وهذا راجع إلى البيئة المحيطة بي. فإذا كان الكائن الإبداعي -ناهيك عن أيّ كائن– هو من إنتاج بيئته، فأنا تجسيد حيّ لهذه المقولة بامتياز. الصوت الشعري في الأحساء يلتفت أوَّل ما يلتفت إلى الطبيعة، عبر التعبير عن توقه إليها، لأنَّ الأحساء رومانسية جدا في علاقتها بطبيعتها، لكثرة ما يوجد فيها من ينابيع ونخيل وحقول وغيرها مما يستفزُّ قريحة الأدب شعريّا.
■ ما أهم الروافد المعرفية التي نهلت منها تجربتك الشعرية؟
□ الحياة هي الرافد المعرفي الأكبر الذي أستقي من مناهله تجربتي الشعرية. الحياة ثريَّة بما يكفي لأن تُطعمنا وتسقينا وتكسونا بالقصائد حتى لا نجوع ولا نظمأ ولا نعرى من الجمال الإنساني. أما الروافد الأخرى كالقراءات أو السينما والدراما وغيرها، فتأتي جميعها في الدرجة الثانية، بعد التورُّط العميق في الحياة، كي تستقي من ينابيعها الصافية وتسقي القصيدة.
■ من أين تسللت الصوفية إلى عوالمك الشعرية؟
□ تسللت الصوفية إلى شعري من خلال إيماني بأن الشعر في حدّ ذاته يمثل حالة صوفية يعيشها الشاعر مع اللحظة واللغة والفكرة والحياة. وهذا الإيمان جاء مبكرا في تجربتي، بسبب قراءاتي في التراث الشعري الصوفي الذي أراه يمثّل انعطافة رائعة في تاريخ الشعر العربي.
■ كيف يكون الشاعر وارثًا ذكيًا لما سبقه من شعراء دون أن يكون نسخة عنهم؟
□ هذا سؤال مهم جدا. أعتقد أنك هنا تقدمين أجمل تعريف للموهبة.. فالموهبة هي هذه القدرة لدى الشاعر على أن يكون وارثاً ذكياً لمن سبقه من الشعراء، دون أن يكون نسخة منهم. الموهبة هي قدرة الشاعر على أن يكون له أسلوبه الذي يميِّزه، بحيث يعرفه القارئ من قراءة نصه، دون أن يذيّله باسمه. يأتي الشاعر إلى الخريطة الشعرية ويجدها محتلَّة بالأسلاف، فيحاول أن يرسم له رقعة صغيرة في هذه الخريطة. لكنّ الأسلاف وحوشٌ ضارية قد تبتلعه في أيّ لحظة، إذا لم يكن (جلجامشيًّا) بما يكفي لمحاربة الوحوش والتسلل ما بينها، حتى الوصول إلى حيث يريد. والخطوة الأولى والأهمّ إلى ذلك تتمثل في الاطلاع على ما كتبه الأسلاف، ومحاولة البحث عن الثغرات لديهم كي يستطيع الشاعر أن يعبر من خلالها بأمان.
■ كيف ترى واقع الشعر السعودي المعاصر؟
□ المشهد الشعري في السعودية ينمو نموَّ العشب بهدوء وروعة، وإن كان بدأ بعاصفة (الثمانينيات)، إلا أنها اضمحلّت وذهبت مع الريح. وأنا لا أعزو هذا النموّ إلى المؤسسات الثقافية الرسمية، وإنما أعزو ذلك إلى الوعي الثقافي الذي بدأ يتسلَّل إلى عقول الشباب نتيجةً للانفتاح على كلّ ما هو جديد، ما يرغمهم على الاصطدام بالتراث، ويجعلهم يقرأون للوصول إلى الحقيقة. وهناك من يقرأ القراءة الواعية التي تؤسِّس لنهضة ثقافية وليست قراءة استهلاكية لإضاعة الوقت. المشهد الشعري في السعودية يتمتَّع بالألق في كلّ جوانبه الإبداعية فهناك النقَّاد والشعراء والمهتمُّون بالشأن الثقافي العام. أسماء كبيرة من كلّ الأجيال – يضيق المجال عن إحصائها – تحتلّ المشهد في كلّ أشكال الثقافة، إضافةً إلى الشعر. كلّ أولئك ما زالوا يعطون إشارات من إبداعاتهم الآنية على أنّ المكنون في رحم الغيب سيكون أجمل.
■ ديوانك الذي جعلنا نبصر «ما وراء حنجرة المغني» والذي لاقى احتفاء كبيراً ونال عدة جوائز وتكريمات، ما الذي منحه هذه الخصوصية دونا عن بقية دواوينك، خاصة أنك صرحت بأنك تريثت خمس سنوات قبل طباعته؟
□ ديواني «ما وراء حنجرة المغني» جاء بعد تجربة طويلة مع الكتابة الشعرية اشتملت على ما يقارب سبعة دواوين، فكان خلاصة تلك التجربة الطويلة. ولكنَّ ما يميِّزه عما سبقه من الدواوين، أنه يمثِّل نقلةَ لي على صعيد التفكير والوعي والعلاقة بالحياة. لذلك، كان أشبه بمرحلة إنسانية جديدة فتحت أبوابها أمامي للدخول إلى أبعادها والانطلاق إلى مرحلة أخرى، وهكذا هو الشعر عبارة عن مراحل إنسانية تتنامى على صعيد الوعي بالحياة أولا، ثمّ يأتي النموُّ اللغوي والتصويري والفني في درجة ثانية.
■ كيف ترى واقع النقد في المشهد الشعري العربي، والموجه الى أعمالك الشعرية خاصة؟
□ النقد كما نعلم جميعا هو أداة لتطوير الحياة على عمومها، وليس وقفًا على الكتابة. ولا شكَّ في أنه مهمّ جدا في إضاءة طريق المبدع، خصوصا إذا كان الناقد يتمتّع بثقافة واسعة وإحساس ثاقب. إلاّ أنّ النقد في الوقت ذاته يجب أن يقوم على علاقة محبَّة بين الناقد والمبدع، وذلك من أجل أن يفي بغرضه تمام الوفاء. على هذا الأساس قامت علاقاتي بكثير من النقاّد في المملكة وخارجها، وكتبوا عن دواويني بحريّة كاملة، فأناروا بكتاباتهم طريق مسريتي الشعرية طوال العقود الماضية. لقد صدرت كُتب سابقة، كما صدرت دراسات عديدة ومقالات عن منجزي الشعري، تستحقُّ أن أجمعها في كتاب كبير.
■ صرحت من قبل بأنك ترى أن أرض النثر بكر وخصبة تغري محاريثك الفنية للعمل فيها، واستنبات الشعر، فهل استجبت لإغرائها؟
□ نعم، لقد قلتُ سابقا أنّ أرض النثر أرضٌ بكرٌ وقابلة لاستنبات الشعر، ولذلك أراني أستمتع بما أقرأ من نصوص نثرية. أما من جهة الكتابة، فأنا واقعٌ رهينةَ تكويني الشعري الأول وهو تكوينٌ إيقاعيٌّ، إذ في الوقت الذي أشعر بها النثرية عند الآخرين، لا أستطيع أن أشعر بالقصيدة عندي، إلا إذا بدأ الإيقاع فكأنَّ الإيقاع حارسٌ يحرس قصيدتي من الوقوع في فخِّ النثرية أو اللا شعرية. لقد كتبتُ الكثير من النثر الفنيّ ووضعته مقدِّمات مطوَّلة لبعض دواويني، ولكنني لا أجرؤ أن أسمِّيه شعرا وإن اعتبره بعضُ النقَّاد شعرا نثريا.
■ يرى أدونيس أن الحداثة هي أن ينتهك الشاعر القواعد السائدة في القول والأشكال التعبيرية، ويحاول أن يأتي بأشكال جديدة، فكيف تراها أنت؟
□ أولا.. من الصعب أن تقولي: يرى أدونيس.. فماذا ترى أنت؟ نحن نأخذ رؤيتنا من رؤية أدونيس، فهو رمز الحداثة والشعر والأدب في عالمنا العربي. أما بالنسبة لي، فأنا فقط أعتقد أنَّ الحداثة هي الحرية في الخيارات على صعيد الأشكال التعبيرية الشعرية، ولكن يجب أن تنتمي اللغة إلى عصرها، وليس إلى العصر الماضي.. أيْ أننا محكومون في الشعر بالجوهر وليس بالمظهر. هكذا نستطيع أن نستوعب مدى التطوُّر الكبير الذي طرأ على القصيدة العمودية (ذات الشكل الكلاسيكي) لتكون قصيدةً حديثةً نابعةً من قلب هذا العصر.
■ يحاول الشعراء السعوديون خلق حالة حداثية خاصة بهم، كيف تنظر إلى هذه الحالة؟
□ أرى أنه في ظلِّ وسائل التواصل الحديثة، أصبح الشعراء في الوطن العربي مرتبطين في نسيج إبداعيٍّ واحد، من فرط اطلاعهم على تجارب بعضهم بعضا. ظاهرة التأثير والتأثر حاضرة، ولكن تبقى الموهبة هي التي تفرِّق بين شاعر وآخر. فقد ترى شاعرا في الأحساء يكتب بالأسلوب ذاته الذي يكتب به شاعر في بغداد أو القاهرة أو مسقط.. ويعيشون الحالة ذاتها، ولكن في نهاية المطاف، يبقى لكلِّ شاعر تجربته الخاصة في الحياة.
■ أضحى الغموض ظاهرة شائعة في الشعر العربي الحديث، خلقت فجوة عميقة بين الشاعر والمتلقي، في نظرك: ما سر ملازمـــــته لأغلب التجارب الشعرية الحداثية؟
□ أعتقد أنّ القصيدة في أصلها هي محاولة للتعبير عن عُقَدٍ نفسية داخل المرء، وهذه العقد هي التي تتحوَّل إلى رموز وأفكار عميقة، لا يمكن أن تأتي واضحةَ الملامح إلا نادرا. والمقصد من كلّ ذلك أن الشاعر لا يتعمد الغموض في قصيدته، وإنما الغموض هو الذي يتسلل إلى القصيدة دون وعي من الشاعر. على المتلقي أن يعي أنّ الكتابة الشعرية الحديثة ليست كتابة البيت الشعري الواحد، وإنما هي كتابة الحالة الواحدة للقصيدة. وهذا يعني أن الشاعر يدفع قارئه إلى استشعار الحالة التي يكتب عنها، سواء كانت حالة حزن أو غضب أو ألم أو غيرها، بغضِّ النظر عن الفهم العقلاني، فالقصيدة تُحَسُّ.. لا تُفهم.
■ ثمّة عبارة إيطالية تقول إنّ الترجمة خيانة للنص الأصلي، فهل فكرت في تقديم أعمالك للترجمة؟
□ منذ فترة ليست بالبسيطة وأنا أفكر في ترجمة مختارات من أشعاري الكثيرة. لقد قامت وزارة الثقافة والإعلام لدينا في المملكة العربية السعودية بترجمة قصائد لي ضمن أربعين شاعرا سعوديا، وقد شجعني ذلك على التفكير في ترجمة ديوان كامل من دواويني، ولكنّني كائنٌ مؤجَّل في كثير من أمور حياتي، للأسف الشديد.
(القدس العربي)