المثقف التنويري الذي اغتاله المتشددون مرتين
إسراء النمر
قبل 25 عاماً، في أيام تشبه أيامنا هذه، عُقدت المناظرة التي عجلت بنهاية المفكر المصري فرج فودة، وكان هو، ومعه محمد أحمد خلف، أحد مؤسسي حزب التجمع اليساري، في مواجهة كل من: الشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد عمارة، والمتحدث باسم جماعة الإخوان آنذاك مأمون الهضيبي، وقال لهم في حضور جمهور غفير بمعرض القاهرة الدولي للكتاب “إذا كانت هذه هي البدايات، فبئس الخواتيم”، بعد أن ظلوا يتحدثون عن ضرورة أن يكون الجدال بين الدولة الدينية واللادينية، وليس بين الدولة الدينية والمدنية.
كان فرج فودة مؤمناً بالحوار، وبمواجهة الفكر بالفكر، خصوصاً مع المتشددين، ما دفعه خلال المناظرة إلى مناقشتهم بالحجة والمنطق، لا بالتعنت وضيق الأفق، فأخبرهم بأن لا أحد يختلف على الدين، لكن بإمكاننا أن نختلف حول الدولة الدينية.
ومع أن جماعة الإخوان لم تكن قد وصلت في ذلك الوقت إلى التغول، ولم تكن لها أذرع طائلة، أو داعمون معلنون، إلا أن فودة رأى أن ما تمارسه من إراقة دماء وتهديد للقانون والسطو على المحلات وتمزيق الوطن بالفتن، شيء مثير للفزع، قائلاً “هذه المناظرة هي إحدى ثمارها التي تسمح لكم بأن تناظرونا هنا، ثم تخرجون ورؤوسكم فوق أعناقكم. أعطونا نموذجاً لدولة دينية، تسمح بمثل هذه المناظرة”.
بعد هذه الكلمات عرف حلمي النمنم وزير الثقافة المصري حاليا، الذي حضر المناظرة بصفته محرراً ثقافياً آنذاك لدى مجلة المصور، أنهم سيقتلونه على الفور.
اغتيال الحرية
حكى النمنم في الأمسية الثقافية التي نظمها المجلس الأعلى للثقافة مساء الأحد، لإحياء ذكرى اغتيال فرج فودة، بعنوان “حضور رغم الغياب” ما أحس به حينها، وقال “لقد رأيت الهزيمة في عيون من يُناظرهم، وما زلت أذكر حتى الآن الغزالي والهضيبي اللذين اكتسى وجهاهما بالغل والحقد، والجنون أيضاً، بعدما انتزع منهما فودة اعترافات كثيرة تؤكد جرائم الإخوان، إذ قال الهضيبي إنهم يتقربون إلى الله بالجهاز السري، وهو ما جعلني (النمنم) أسأل في تغطيتي الصُّحافية للمناظرة، هل اقتربت نهاية فرج فودة؟”.
بعد أيام من المناظرة، في 8 يونيو عام 1992، كان هناك شابان من الجماعة الإسلامية، هما أشرف سعيد إبراهيم وعبدالشافي أحمد رمضان، ينتظران فرج فودة، وهما يمتطيان دراجة نارية، أمام الجمعية المصرية للتنوير، في حي مصر الجديدة (شمال القاهرة)، وحين خرج فودة بصحبة ابنه أحمد، انطلق أشرف بالدراجة، بينما أطلق عبدالشافي الرصاص من رشاش آلي فأصابه في الكبد والأمعاء، وفرا، واستطاع سائق فودة أن يلحق بأحد الإرهابيين، وهو عبدالشافي، وقام بتسليمه إلى الشرطة.
كما جرت العادة، بعد ارتكاب الجرائم وعمليات الاغتيال، خرجت الجماعة الإسلامية لتبرر اغتيالها للرجل، وقالت “نعم قتلناه، ذلك الكاره، المحارب للإسلام، قتلناه ليس قمعا لحرية الفكر، لكن وقفاً لحرية الكفر التي تمارس في بلادنا في الوقت الذي تكبل فيه أفواه الدعاة إلى الله”.
ورأى جابر عصفور، المفكر الليبرالي ووزير الثقافة السابق، أن الصدام بين فرج فودة والجماعات الإسلامية اشتد بعد أن تحالف الرئيس الراحل أنور السادات مع هذه الجماعات، لتكون أداته للقضاء على الناصريين والقوميين واليساريين.
وأضاف في ندوة المجلس الأعلى للثقافة أنه “طالما سخر من هذه الجماعات التي رفعت شعار ‘الإسلام دين ودولة‘، لأنها لم تخطط لدولتها الدينية أي مشروعات، حتى حين عاصرنا نحنُ وصول الرئيس الإخواني محمد مرسي إلى الحكم، تساءلنا عن برنامجه، لنفاجأ أن لا مشروعات، ولا تصورات لديه”.
في عام 1978، سمح السادات بالتعددية الحزبية، واستطاع فرج فودة أن يشارك في تأسيس حزب الوفد الجديد، لاعتقاده أنه قادر على اجتذاب جميع الاتجاهات الليبرالية في مصر، وعلى رفع شعار الوحدة الوطنية ليس فقط كفكر مجرد، بل كتراث سياسي كبير، وتوقع في كتابه “الوفد والمستقبل” أن الصراع سوف يكون بين الوفد والاتجاه السياسي الديني المتطرف حتى نهاية القرن العشرين، لكن ما حدث كان العكس تماماً.
اكتشف فرج فودة أن الحزب تحالف مع الإخوان في الانتخابات البرلمانية، وحاول أن يمنع هذا التحالف الذي قاده الشيخ صلاح أبوإسماعيل، لكنه فشل، فقرر أن يستقيل من الحزب في 26 يناير 1984.
حاول بعدها تأسيس حزب سياسي باسم “المستقبل”، غير أن لجنة شؤون الأحزاب في مجلس الشورى رفضته مرتين، فخاض انتخابات برلمان 1987 مستقلاً عن دائرة شبرا، لكنه خسر، وفي هذه الانتخابات تعرض لحملة استهداف عنيفة، قادها الشيخ أبوإسماعيل الذي ادعى أن فرج فودة أباح الزنا في كتابه “قبل السقوط”، فطلب منه أن يأتي له بزوجته، فإذا فعل فلا كرامة له، وإذا لم يفعل فهو أناني، في تصرف لا يمكن وصفه إلا بالدنيء.
التنبؤ بالمستقبل
قال الكاتب المصري خالد منتصر في الأمسية “هل الرصاص الذي أطلق على شهيد التنوير من رشاش الغدر والخسة هو آخر الرصاص؟.. ففي يونيو 1992 تلقى فرج فودة الرصاص في قلبه وكبده، وفي يونيو 2017 تلقى فكر فرج فودة رصاصة الرحمة بسطوة قانون ازدراء الأديان. قُتل المفكر، ونحنُ الآن نقتل التفكير”.
ولفت منتصر إلى أن فودة عانى من التهميش طيلة حياته، حتى بعد وفاته، وظلت كتبه لفترات طويلة من الممنوعات، ولا يُعاد طبعها، وشبهه خالد منتصر بأنه سيزيف الذي ظل يحمل الصخرة على ظهره، ليصعد بها إلى قمة الجبل، لكنه كلما اقترب من القمة، تتدحرج الصخرة، فيكرر المحاولة إلى ما لا نهاية.
هذه الصخرة هي أفكاره ونبوءاته، التي ظل يرددها، في مقالاته وندواته، دون أن يأخذها أحد على محل الجد، فكان مثلاً دائم التحذير من تغوّل ونمو الإسلام السياسي الذي يجد له أرضية خصبة في جميع البلدان الإسلامية، وترك غياب المعارضة المدنية الساحة خالية تماماً أمام الجماعات الأصولية، ما يجعلها صوت المعارضة الوحيد، الأمر الذي يؤدى إلى انهيار الدول والانقسامات والحروب وتفشي الإرهاب.
كما كان يتوقع أن “الصراع العربي الإسرائيلي في طريقه للتآكل بعد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وبأن صراع مصر في الشرق الأوسط سيتحول إلى الجمهورية الإيرانية الإسلامية، أما الصراع المسلح فسوف يتجه إلى الجنوب حيث مصادر المياه”، إذ دعا لتأمين منابع النيل ومساره، ونبه إلى أن صعود التيار الإسلامي في السودان في عام 1983، يمثل خطراً استراتيجياً على أمن مصر القومي.
(العرب)