‘جميلة’ .. أنشودة الحُب في عُتمة الحرب
كه يلان مُحَمَد
إذا كانت الحربُ هي ماتَأتي بالدمارِ وتتراكم على إثر إندلاعها حطام الخراب، وتقضي على الأحلام التي تُدفن مع الضحايا، فإنَّ الحُبَ هو مُعادل للحياة والإنبعاث والإيمان بما تعملُ من أجله الأمرُ الذي يُحافظُ على الجانب الروحي لدي الإنسان، كون المُحِب لايفكرُ إلا بالقلب على حد قول مارك توين.
لذلك يختلفُ مسار العُشاق عما يسلكه غيرهم من الدروب، كما أن منطقهم غير ما يعتمده الآخرون لفهم وقائع الحياة.
جُلَّ الروايات التي تتناول موضوعة الحرب والآثار الناجمة عنها وما يعاني المرءُ في ظلها من المحن والتشرد والتحولات التي تشهدها الحياة إبان سنوات الحرب تذكرُ مقابل تلك العتمة ما يتولد من قبس الحبِ من الأنوار، كأنَّ الكائن الإنساني مقدر له أنْ لا يدركُ كنه الحب إلا حين تداهمه الكوارثُ أو لايذوق طعم هذه التجربة إلا وهو على شفا الهاوية.
هذا ماتراه مُتجسداً في رواية “جميلة” للكاتب القرغستاني جنكيز إيتماتوف الصادرة من دار الساقي إذ يوظفُ صاحبُ “السفينة البيضاء” لغةً مُقْتصدةً مُتحاشياً الإسهاب في وصف مشاهد الحرب وما تتراكم في الجبهات من الظواهر المشبعة بالعبثية واللامعنى، بل يلمحُ بما ينزاح بخيال المتلقي لتصوير ميادين الحرب.
أضفْ إلى ذلك ما يعرضهُ الكاتب من تضاريس طبيعة البئية التي تُصبحُ إطاراً لهذا العمل، لذا كثيراً ما يشعرُ القاريء بأنّه صار في موقع المشاهد للمناظر التي تتحولُ إلى عنصر تكاملي لما يختلجُ في أعماق الشخصيات الأساسية إذ لا يضارعُ روعة الطبيعة إلا جمال الحب الذي ينمو في قلب جميلة على إيقاع الأغاني التي ينشدها دانيار بين الجبال والوديان.
• حكاية اللوحة
لا يحتاج القاريء إلى كثير من الوقت حتى يتعرف على مناخ الرواية بل بمجرد مُقاربة العنوان يأخذُ تصوراً عن الموضوع الذي يستوي عليه بناء العمل، ناهيك عن التوقع بأنَّ الشخصية التي تحمل الرواية إسمها ستكون محوراً للأحداث بأكملها كما أن صورة الغلاف تُعضدُ تلك القناعة لدى المتلقي. وهذا الأمر بدوره يكون حافزا لفعل القراءة التي تبرزُ علاقة الصورة وتمظهراتها النصية في الرواية.
ولا ينتهي دور الصورة عند عتبات النص بل اللوحة التي يطالعُ فيها الراوي هي بمنزلة البهو الذي يسمح لك بالدخول إلى النص على حد تعبير بورخيس، وذلك ما يُضيف إلى القاريء دوراً آخر أن يكون مُشاهداً ومُتفاعلاً مع ما يُدرك بصرياً، يتوقف الراوي عند دقائق اللوحة وما إرتسمت عليها من المناظر الطبيعية بحيثُ يضعك في المشهد بكل تفاصيله ومن ثُمَّ يشرع في حكاية هذا الأثر الفني بعدما يتضح لنا بأنه صاحب العمل الذي قد ألهمته قصة الحب بين جميلة وهي زوجة أخيه صادق الذي استدعي إلى الحرب قبل أن تمضي أكثر من أربعة أشهر على زواجهما، ودانيار وهو عائد من الحرب يرحبُ به أهل القرية حالما يتعرفون على أصله ويحددون عشيرته.
نشأ دانيار يتيماً ولم يستقر به مكانُ واشتغل في مناجم الفحم، في مزارع القطن، ومن ثُم يلتحق بالجيش هكذا ينساب السردُ على لسان الراوي العليم ذاكراً خلفية الشخصيتين الأساسيتين إذ وفدت جميلة من قرية باكاير الجبلية، لا يفوت الراوي أن يصفها على المستوى الشكلي وما تتحلي به من جمال أخاذ بحيثُ يعشقها الجميع، بجانب ذلك فهي شخصية حازمة وجريئة ومُتحدية لنزوات الشبان العابثين إذ تضع حداً لعثمان السكير حين يسعى إلى إستغلال غياب زوجها ليقترب منها، مُقابل ذلك يأخذ وصف الطبيعة وموقع القرية وحقولها ومنحدرات الجبال مساحة لا يستهان بها من فضاء الرواية غالباً ما يكون هذا الوصف مُحايثاً للمواعيد التي ينطلقُ فيها سعيد شقيق صادق وجميلة برفقة دانيار نحو المحطة ناقلين بالعربة المؤون للجنود والمحاربين.
يُشارُ إلى أن مؤلف “الكلب الأبلق يركض” لا يُثقلُ عمله مما ينتظرُ من روايات الحرب التي تشطحُ إلى اللامعقول وإيراد مفردات صادمة بل يُفضل الوقوف عند بعض تداعيات الحرب والإيماءة إليها في حوارات متبادلة بين الشخصيات إذ تدرك من خلال النقاش ما بين رئيس العمال وأم سعيد ما يترتب على الحرب إذ تخلو القرية من رجالها ما يتبع ذلك من مطالبة السلطات بضرورة أن يعملَ اليافعون والنساءُ وحتى المعاقون تلبية لمتطلبات المرحلة فضلاً عن ذلك أحيانا تتناهى أخبار الحرب والمجندين إلى القرية ومحطة القطار عن طريق منْ يغادر الجبهة إثر إصابته أو عبر الرسائل التي يتلقها الأهلُ وبذلك يتوازنُ المؤلف بين ثيمات الرواية.
• تمجيد الحُب
لا يكون مفهوم الحب في الرواية مُنحصراً بالمشاعر الموجودة بين الرجل والمرأة بل يتحول الوطنُ أيضاً إلى عنصر في علاقة الحب القائمة بين الشخصيات، على منوال ما تراه لدى رسول حمزاتوف في “بلدي” وقربان سعيد في “علي ونينو” إذ لا ينفصل لدى هؤلاء الأُدباء حب الوطن عن حب المرأة بل أحياناً تبدو المرأة مُعادلاً موضوعياً للأرض بعطائها ودورها في تخفيف الشعور بالوحدة؛ إذ وجد دانيار في جميلة ما افتقده منذ أن رأى النورَ، لذلك في حضورها يتذكر يستعيدُ القدرة على الغناء ويدبُّ في قلبه حب الأرض من جديد. وتضرب جميلة من جانبها بكل العادات والتقاليد بعرض الحائط وتهربُ مع دانيار.
هنا لا يتساءلُ المتلقي لماذا لا يعترضُ شقيق صادق على هروب زوجة أخيه مع دانيار، لأنَّه رافق سعيد في متابعته للحب الذي نشأ بين الاثنين مثلما أنَّ الراوي يحترمُ هذا الحب، ولا يسعى لتكدير صفوه، كذلك المتلقي يشعرُ بأن العمل ينسلخ من أبعاده الجمالية بدون هذه النفحات الرومانسية.
الأكثر من ذلك ما يُجعل هذه الرواية مشوقة هو إيغالها في الطابع المحلي والإهتمام الذي يعطيه المؤلف لما تتصف به البيئة الإجتماعية من الأعراف والتقاليد إضافة إلى إيراد أسماء النباتات والأزهار في متن النص ما يؤكدُ من جديد أن الطريق إلى عالمية الأعمال الأدبية يمرُّ بعدم الإنفصال عن المحلية، والتأثيث على ما يُكونُ خصوصية البيئة فضلاً عن القدرة على إيجاد القنوات بين ما هو متغلغل في المحلية وما هو ذو نزعة إنسانية شاملة فعلاً وفق جنكيز إيتماتوف في هذا الأمر لذا تُعدُ نموذجا للأعمال التي تعالج موضوعة الحرب والحب من منطلق إنساني عميق في مساحة قصيرة نابضة بالصور مُكثفة بالدلالة.
(ميدل ايست أونلاين)