«اليهود المصريون والحركة الصهيونية»: حقائق الوقائع ومبالغات التفسير

محمد عبد الرحيم

لم تزل الوقائع التاريخية للوجود اليهودي في مصر تحمل العديد من التفسيرات والإمكانية الكبرى للتأويل، وبخلاف التواجد الضارب في العمق التاريخي، وهو تواجد يرتبط إلى حدٍ كبير بالمقدس اليهودي ــ حسب العقيدة ــ إلا أن هذا المقدس نفسه ــ كأي مقدس ــ لا يخلو من الادعاءات، وبعض من تزييف الحقائق. ولكن السؤال الذي لم يزل يدور هو الدور الذي قام به اليهود المصريون في نشأة وخدمة الحركة الصهيونية العالمية، هذه الحركة التي أضحت السمة الأسمى للمجتمع اليهودي، خاصة أن طبيعة الطائفة اليهودية في مصر، جعلت التعبير الغالب من جانبها لصالح دعاوى مضادة للتيار الوطني، فشرائحها العليا كانت تنتمي للثقافة والفكر الغربي، ما ساعد على انفصالهم عن الواقع الاجتماعي والثقافي المصري، وحتى عن أبناء طائفتهم الأصليين، فإلى أي مدى كان إيمان يهود مصر بالحركة الصهيونية، وكيف ساعدوا في استتباب هذه الحركة، وكم من المثقفين المصريين ساعدوا في ذلك، سواء بوعي أو بدونه؟ كل هذه التساؤلات تحاول عواطف عبد الرحمن أستاذة الصحافة في كلية الإعلام جامعة القاهرة، الاقتراب من الإجابة عليها من خلال مؤلفها «اليهود المصريون والحركة الصهيونية»، الصادر حديثاً عن دار الهلال في القاهرة، ضمن سلسلة كتاب الهلال، عدد مايو/أيار 2017.

الاختراق الصهيوني لمصر

في مقدمة تاريخية تتناول المؤلفة كيفية اختراق الفكر الصهيوني لمصر، بداية من مناخ التسامح السياسي والاجتماعي الذي كان يتمتع به يهود مصر، بما أنهم من نسيج الشعب المصري، ثم بث هذا الفكر من خلال الدوريات الثقافية المُحكمة ــ مجلة «الكاتب المصري» بوجه خاص ــ كذلك مساندة القيادات السياسية والفكرية في مصر، وصولاً إلى ما قامت به الحركة الصهيونية لتوظيف وتجنيد يهود مصر لخدمة سياسة التوسع في فلسطين والعالم العربي.
كانت البداية في زيارة ثيودور هرتزل لمصر عام 1903، التي أسفرت عن تأسيس جمعية «بني صهيون» التي نجحت في استقطاب عدد كبير من يهود الإسكندرية، كذلك قامت الجمعية بتسهيل عمليات الهجرة إلى فلسطين مع لجنة مساندة فلسطين، التي أسهم في تشكيلها كبار الرأسماليين اليهود في الإسكندرية، بعد صدور وعد بلفور عام 1917، كذلك تم جمع التبرعات من اليهود المصريين لشراء أراضي فلسطين.

يهود اليسار المصري

بادرت المجموعات اليسارية من اليهود المصريين الى تكوين «الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية»، التي أوضحت أن الحركة تريد أن تحول العالم العربي المتسامح مع اليهود إلى عدو لهم، وأيضاً العلاقة الوثيقة بين الحركة الصهيونية والقوى الاستعمارية، التي تريد استخدام اليهود لتأكيد سيطرتها على الشرق. من ناحية أخرى رفضت الرابطة سياسة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، لأنها ستؤدي إلى حرب أهلية. كما رأت الرابطة أن حل «المشكلة اليهودية» يكمن في المشاركة المخلصة لليهود في الحياة القومية للبلاد التي يعيشون فيها. ربما هذه الإشارة السريعة لفكر يهود اليسار المصري يرد على الكثير من المزاعم التي اتهمتهم بالتآمر والتواطؤ لصالح الصهيونية، والمؤلفات لا تحصى حول هذه المسالة، التي تتواتر من حين لآخر، ولا يخفى أن المقصود منها هو تشويه وضرب الحركة اليسارية المصرية بالكامل، فلا يوجد غير الوصم بالصهيونية جريمة مُثلى.

مجلة «الكاتب المصري» والمناخ الثقافي

صدرت مجلة «الكاتب المصري» في أكتوبر/تشرين الأول 1945، وترأس تحريرها طه حسين، وتم اتهامها بأن هدف إصدارها هو استقطاب المثقفين المصريين لصالح الحركة الصهيونية، بشراء صمتهم إزاء الصراع العربي الصهيوني. وتشير المؤلفة إلى أن المجلة كانت تناقش كافة الأحداث السياسية وقتها، وكانت ترى القضية الفلسطينية كشيء هامشي. من ناحية أخرى أبرزت المجلة إنجازات وإسهامات اليهود في الثقافة والأدب العربي، إضافة إلى عدة مظاهر ثقافية وسياسية أخرى، كحضور لطفي السيد رئيس الجامعة المصرية وقتها مندوباً رسمياً في الاحتفال بافتتاح الجامعة العبرية عام 1925. وإن كانت هذه المظاهر قد حدثت بالفعل، إلا أن نغمة التحامل نجدها في أسلوب وصوت مؤلفة الكتاب، فالفصل ما بين يهودي مصري وصهيوني مصري أمر ضروري، لكن ألم يكن الموقف يتساوى هنا وموقف يهود اليسار المصري، من الحث على هذه التفرقة بداية، ثم الإيعاز بالحل في انخراط اليهود المصريين في قضاياهم الوطنية؟
وفي الأخير يزخر الكتاب بالعديد من المعلومات التوثيقية، خاصة الصحف ــ مع المبالغة أحياناً في تحليل هذه الأخبار، فهناك وجهة نظر مُسبقة قبل عملية الاستقراء والوصول إلى نتائج ــ ليوضح مراحل تغلغل هذا الفكر ونتاجه في مصر، بداية من ثورة 1919، وحركة يوليو/تموز 1952، ثم هزيمة يونيو/حزيران 1967، وحرب أكتوبر 1973، وطبيعة العلاقات المصرية الإسرائيلية في عهد «مبارك» المخلوع.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى