العرب في خضم أتون من الاستهتار الشعري
![](/wp-content/uploads/جبار-الكواز.png)
علي لفتة سعيد
منذ عام 1968 نشر الشاعر العراقي جبار الكواز أول قصيدة له في إحدى الصحف البغدادية، وهو ابن الحلة، فكان مزهوا بتلك اللحظة التي كان فيها اسمه منحوتا على الصفحات الثقافية للصحف البغدادية، ولكنه يرى أن النص الذي نشرته له مجلة ألف باء في أبريل عام 1970 وحمل عنوان “مرثية للرياح” يمثل البداية الحقيقية له كونه أخذ صفحة كاملة من تلك المجلة الرائدة، ومَن نشرها الأديب العراقي المعروف فاضل العزاوي كونه كان مشرفا على القسم الثقافي في المجلة حيث اهتم بها وخطط لها. ومع تلك البدايات نحت الكواز اسمه ليكون واحدا من الشعراء العراقيين الذين يشار إليهم بالبنان ونال اهتمام النقاد وصارت نصوصه محط اهتمام الدارسين في الجامعات العراقية.
الصراع الأزلي
يقول الكواز “المجيء إلى الشعر يتخذ عدة طرق ولا يتشابه فيها الشعراء في كل العصور والأماكن والأجناس. ربما يكون سبب المجيء عندي متأتيا من نزعة ذاتية أرادت الإجابة عن سكونية ما يحيط بي إنسانا واعيا بالواقع مبكرا فانبثقت الأسئلة التي تبحث عن المجهول الذي يكسر رتابة الواقع في كل شيء. الأسئلة هي التي قادتني إلى عالم الشعر واحتداماته وصراعاته وتناقضاته. أ ليست الأسئلة هي ما يزيح المجهول؟ هي التي قادتني إلى عالم الشعر المجهول والمجنون لأعرف فحوى الواقع وجدواه بأجوبة لما تأت بعد”.
ما يلاحظ على منجز الكواز أن تجربته الشعرية ليست اللعب على الملفوظات فقط لإنتاج معنى النص، بل ثمة صراع وفعل درامي أو ما يطلق عليه الحكاية داخل الشعر. يقول الكواز عن ذلك “النص الشعري الذي أتوق إلى بنائه قائم على الصراع الأزلي بين ثوابت مقدسة ومتحركات مبتكرة بالاعتماد على بناء كناية كبرى لأمّة ولتشظيات الكنايات الصغرى التي تقول ما يحيط التجربة الإنسانية التي أعيش تفاصيلها بوعي وتجديد لمدة طويلة قبل أن يخرج النص بقناعة تلك الكناية الكبرى التي تضيف أسئلة في جوهرها لتحريك تلك الثوابت. الصراع سمة أساسية في نصوصي، صراع من أجل الاكتشاف المخبوء خلف جلد الواقع والألفاظ “.
قال الكواز ذات مرة إن الشعر واحة كبيرة، ولكنه يؤكد مخاوفه بأن هناك من تصدى لقول الشعر، جمع غفير من الأدعياء والفاشلين والجهلة ومتصيدي الشهرة والباحثين عن دور كاذب، هذا الجمع المخيف الذي يشجع الناشئة على الفشل ويشوه الجوهر الجمالي للشعر ويحاول أن يخلق معادلة تقوم على تسخيف الشعر والشعراء وإلغاء دورهم النقدي والعضوي بوصفهم مثقفين أصلاء. ويطالب ضيفنا بالقيام بحملة لإعادة الهيبة للشعر بوصفه أولا فنا لغويا فكيف ننتظر ممن لا يحسن اللغة كتابة وقراءة أن يسهم في توطيد مفاهيمه وتطوير رؤاه وخلق متبنيات جديدة تسهم في إعلاء شأنه إبداعيا ومجتمعيا في خضم أتون من التجهيل والاستحمار الشعري قل مثيله بين الأمم وعبر التاريخ.
ما يمكن التأشير له بحسب ما قاله الكواز هو أنه يبدو أن هناك تراجعا في عملية التلقي الشعري للقراء واستحواذ الرواية على عالم التلقي، حيث يقول “إن التراجع الملموس في عملية التلقي الشعري جاء بسبب هذه الفوضى غير الخلاقة التي اتكأت على كذبات إعلامية يروج لها في الكثير من المنتديات الهوائية التي أتاحت ظروف ما بعد سقوط الشمولية لها فرصة التنفس وممارسة أباطيلها”.
سعي مجنون
ما يترشح من قول الكواز هو التأكيد على غلبة الرواية على الشعر، فهل يعود تراجع الشعر إلى الطارئين أم إلى تطور الحياة أم إلى أن الشعر بحد ذاته لم يعد صوت أمة؟ ولكنه يرى أن هناك مجموعة مسببات أدت إلى تراجع الشعر أمام الرواية وإن كان الشعر أبا حقيقيا لجميع فنون الكتابة.
ولكنه أيضا يجمع الأسباب بقوله إن الطارئين وتطور بنية الحياة وتسارع الزمن وقلة الفرص المتاحة للتأمل والمتابعة والظهور الساطع لمفاهيم الحياة المدنية التي تشكل الرواية أحد مرتكزات بنائها وفنونها إضافة إلى تراجع الفهم الحقيقي للعملية الشعرية، وغياب الفهم الحقيقي لجوهر الشعر وفاعليته، واعتماده على آلياته القديمة في الاتصال، كل ذلك أدى إلى حدوث هذا التراجع الخطير الذي يفقد المشهد فاعليته الجمالية التواصلية للشعر متنازلا أمام الرواية في تسيد المشهد في راهننا الذي نعيشه.
إن التجربة الطويلة تنتج فعلا مميزا مثلما تنتج تأقلما مع الذات واستقرارا في التجربة. نسأل الكواز هنا إن كان قد وجد ذاته كشاعر أو كإنسان أم أنه ما زال يبحث عن اللحظة الشعرية، بعد رحلة الإبداع التي زادت على الأربعين عاما منذ السبعينات من القرن الماضي؟ ليجيبنا الشاعر بأن ثمة حديثا نبويا متداولا يقول “المرء عالم ما طلب العلم فإن ظن أنه عالم فقد جهل” وهو يريد تلخيص رؤيته عن تحقيق الذات كونه كتب الشعر منذ الستينات من القرن الماضي وبدأ النشر في السبعينات وأصدر إلى الآن 14 كتابا شعريا، وهو بعد هذه الرحلة يعترف بصدق وبوعي ودقة أنه لم يحقق ما يريده لذاته كشاعر أولا.
وما زال يبحث عن لحظته الشعرية في كل عمل ويكرر القول المعروف “ما يأتيني لا أريده وما أريده لا يأتيني”، بل ويؤكد أنه لم يزل تلميذا نجيبا في ساحة الشعر ينشد الجمال ويبحث عن التمييز ويصارع نفسه بنفسه لإنتاج نصوص على الأقل -كما يقول- تشير إلى اجتهاد منه وتتوق إلى تمييز خاص تحدده خواص فنية تبحث في معنى الشعر الحقيقي لا المزيف الذي صار مطية يمتطيها كل من هب ودب.
في خضم الإشكاليات الأدبية والمصطلحات الكثيرة والفوضى الخلاقة يرى البعض أن هناك في الخارطة الشعرية العراقية تجاذبات حول التصنيف الأجناسي لهذا الأديب أو ذاك، مثلما هناك تجاذبات حادة ظهرت بسبب عملية استسهال الشعر. ويعلق الكواز حول هذا الأمر قائلا “إن الكل مسؤولون عن هذه الإشكالية في التنظيرات لأننا أمام مشهد إشكالي تتداخل فيه المفاهيم مما لا يحسن فهمه أصلا وتتغالب الأحكام فيه منطلقة من أحكامها الاجتماعية لا الفنية فتعلي ذاك وتسقط هذا وفقا لمتبنيات رؤاها الفكرية إضافة إلى سعي جنوني من الكثير من الناس البعيدين أصلا عن جوهر الشعر وأولياته وآلياته واشتغالاته.
بل ويكرر أنه سعي جنوني غير مسبوق لنيل صفة ‘أديب برتبة جنرال‘ كما قالها يوما صديقي العزيز الشاعر المبدع سلمان داود محمد، فكيف نرتجي تنظيرات قارة قائمة على مبدأ الفهم والبحث الجاد ذي الخطوات المدروسة والمعروفة في ظل جو تغالبي متصارع على أسس فكرية ونفعية وشللية ومناطقية وطائفية”.
ويعتقد الشاعر أن هذه الإشكالية كان يمكن أن تحل بجهود الباحثين الأكاديميين ولكن في الواقع نرى أن الدرس الأكاديمي في الجامعات أصابته العدوى أيضا فصار جزءا من الإشكاليات الفنية والفكرية المتغالبة المتصارعة وفقا لظروف واقع إشكالي أصلا.
تعرض المواطنون العراقيون -ومنهم الأديب- إلى الكثير من الضغوط السياسية والحياتية. ولكن يبدو أن هذه الضغوط أدت إلى ظهور أو بروز ظواهر جديدة في الشعر العراقي مثل القصيدة التفاعلية أو القصيدة المقصورة أو المدورة وغيرها. وهو ما يشير إليه الكواز حين يقول إن الضغوط السياسية والحياتية لها أثر أساسي في ظهور وبروز ظواهر جديدة في الشعر العراقي فالشاعر وهو يواجه واقعا قامعا أو ظالما أو مهمشا -بكسر الميم- يبحث عن مساحات جديدة وإن كانت ضيقة لإطلاق رؤاه الإبداعية التي تغلف رؤاه للواقع.
(العرب)