الفيلم اللبناني «ربيع» للمخرج فاتشي بولغورجيان: المتبنّى الكفيف يبحث عن أصله
حسن داوود
ليست هي المرة الأولى التي أجد فيها أنني وحدي في الصالة الواسعة. لولاي، ما كان الرجل الذي يدير الآلات سيقوم بعمله لهذا العرض. وقد سمعتهم يقولون له، فيما أنا أتقدّم بخطواتي لأختار المقعد الذي يعجبني، أن أحدا قد أتى. كان حاضرا في غرفته، فلم أكد أنحرف لأصل إلى وسط صف المقاعد، الذي هو في وسط الصالة أيضا، حتى أضاءت الشاشة، بل ارتفعت أصوات موسيقية مختلطة بأصوات رجال مزدحمين. كان ذلك مقتطفا مما سيُعرض في أسبوع تال، أو ربما في أسابيع تالية، طالما أن الفيلم الذي جئت لحضوره ما زال يعمل منذ أسابيع، في صالات البلد أولا، ثم هنا في صالة سينما صوفيل المختصّة بتقديم عروض طليعية، أو غير تجارية غالبا، كما بإحياء مناسبات سينمائية عديدة بينها أسبوع الفيلم الأوروبي مثلا، أو الألماني، أو الإسباني الذي سيبدأ تقديمه بعد أيام.
وحدي في الصالة التي تتسع مقاعدها لمئات المشاهدين. فكّرت أن الفيلم الذي ذاعت شهرته في بيروت، ولقي استقبالا مشجعا في مهرجانات سينمائية عدة، قد استنفد جميع مشاهديه، وإنني أنا الأخير الباقي من بينهم. جئت متأخرا لعرض بعد الظهر هذا من يوم الأحد. كان قد أخرني عن المجيء الإعلانُ الذي يسوّق للفيلم، وهو ذاته الذي يسوَّق به للأفلام اللبنانية جميعها إذ يروح المستفتون، عن كل فيلم، لحظة خروجهم من الصالة، يقولون مندهشين بأن ما شاهدوه كان رائعا. وفي أحيان يقولون إن الفيلم أكثر من رائع، بل أكثر بكثير، وهذه الأخيرة تقال مصحوبة بعلامات إعجاب ظاهرة في إشراقة الوجه كله. وحول الفيلم هذا ثمة من قال، أو كتب، أن «فيلم ربيع يصنع ربيع السينما اللبنانية»، علما أن هذا سبق أن قيل هو نفسه عن صناعة أفلام لبنانية بدت لنا، بعد مشاهدتها، محبطة في أوسع تقدير.
ثم إنني وجدت في كون بطل الفيلم ضريرا بدعةً لبنانية أخرى، تذكّر بذلك الميل إلى السبق في اختراع ما هو مجاني في لاعاديته، كمثل ما احتفل مرّة فنانون لبنانيون باختراع أطول علم لبناني لفّت به سفينة كانت راسية في الميناء. لكن سوء الظن هذا سريعا ما انخفضت حدته لدى مشاهدتي الفيلم، حيث ظهر الشاب جبور بركات (في دور ربيع مالك) من دون احتفال بخصوصيته، أو بإعاقته. أمام موظفي الأمن العام بدا حقيقيا في ما هو يقدم بطاقة هويته، ومقتصدا في انفعاله حين قال له أحد الموظّفَيْن إن هذه الهوية مزوّرة، وهو لم يكن يعلم شيئا عن هذا. صحيح أن نبرة صوته بدت متفاوتة، فترتفع من دون ضرورة يقتضيها الانفعال، لكنني رحت أقول إن ذلك بسبب خصوصية الممثل الذي لا يستطيع، في ما هو يؤدّي المشهد، أن يتخيل كيف يُرى، فيروح لذلك يبالغ في الأداء بصوته الذي يمكنه سماعه والتلاعب به.
ولا بد أن الكثيرين الذين سبقوني إلى حضور الفيلم بذلوا، مثلي، ذلك الاهتمام، بل التركيز الإضافي، على حركة الممثل بما يشبه امتحانه، مع كل كلمة ينطقها أو حركة يقوم بها. لا يحتاج الضرير إلى أن يضيء الكهرباء عند دخوله إلى المنزل، وإذ تركه المخرج يسير بين الأبواب في العتم، فهذا ما لا يحتاج إلى تهنئة خاصة. لكننا كنا دائما نجري هذا الاختبار لنجد أن المخرج نجح في إيلائه البطولة لضرير، وهو لم يخْفِ عن جمهوره التشوّه المصاحب لإحدى عينيه الكفيفتين، ثم، إلى تمكّنه هذا من إدارة ممثّله، نجح المخرج أيضا في إيجاد قضية ما، لبنانية في الأصل لكنها لم تلبث أن شملت مواطني بلدان أخرى، مثل سوريا والعراق وليبيا إلخ.
فجأة، وبعد ما جرى مع رجُليْ الأمن العام، تبدأ رحلة ربيع مالك في البحث عن نفسه، مَن هو ومَن هم أهله، وإن كان متبنّى فكيف وبأية ظروف. هذا البحث عن الأصل والهوية، الذي ينبغي أن يكون قضية فردية، مثلما يمكن أن يكون محملا بمرحلة واسعة من تاريخ بلد، عولج في الفيلم بأقل التعقيدات البنائية والفنية. لا أكثر من أن يطوف الشاب بين الأماكن المختلفة، مرافقا بسائق سيارة قريب، سائلا من كانوا زملاء متبنيه في أيام التقاتل اللبناني عما يعرفون من حكايته. مشاهد الدخول والخروج من الأبواب كانت كثيرة في الفيلم ومتكرّرة. وهناك في الداخل، في كل داخل، كان يجلس ربيع مخاطبا الشخص الجديد. ذلك ما خدم فكرة الفيلم عن ضياع بعض الناس وافتراقهم عن منابتهم، وإن بأقل سينمائية ممكنة، أو بالحد الأدنى من الشغل السينمائي.
المهم أن طواف ربيع لم يصل به إلى يقين. كان على سعيه أن ينتهي إلى لا شيء، على الرغم من الكتمان، غير المفهوم، الذي التزمه جميع من ساءلهم أو حاورهم. لكنها فكرة عن الحرب ونتائجها فُهمت سريعا من مشاهديها، لا بد، فهم اعتادوا على أن تُنقل لهم الأفكار المستخلصة من سنوات الحرب.
الفيلم بدا مقنعا، خصوصا لجهة التزامه الاقتصاد في كل شيء. لكنه، في خاتمته، ولكي يرينا أن حياة ربيع عادت إلى ما كانت عليه حاله قبل بحثه وقلقه، أحيى حفلة طرب حضرها متبنّياه أمه وخاله. حفلة طرب طويلة رحت أفكّر أن لا لزوم لها إلا إضافة عشر دقائق مثلا يحتاج إليها الفيلم، هكذا بما يذكر بالأغنيات والرقصات التي كانت تقدم كاملة في الفيلم العربي أيام الأسود والأبيض. عشر دقائق أو أقل قليلا.. بلا معنى، إذ لم تطربنا ولم تزد على الفيلم شيئا.
فيما أنا أخرج من الصالة، لحظة نهاية الفيلم، عرفت أنني لم أكن فيها وحدي. كان رجل جالسا هناك على المقعد الطرفي، خلفي بأربعة صفوف أو خمسة. فاجأني إذ لم يكن هنا حين رحت أتلفت لأرى إن كنت ما أزال وحدي. خطر لي للحظة أن أتقدم إليه وأسأله: متى جئت؟ وطبعا لم أفعل، لكنني قدّرت أن ذاك السؤال اللاهي ربما كان ما أوحى لي به هو حفلة الطرب الأخيرة تلك.
فيلم «ربيع» للبناني الأرمني فاتشي بولغورجيان يعرض الآن في صالة سينما صوفيل.
(القدس العربي)