ثقافة الربيع العربي ومرضى الأمل
محمود قرني
لم تقذفنا ثقافة الربيع العربي بحقائق الخذلان السياسي والاجتماعي وانهيار البنيات الداخلية وتهاويها وتردي النخب السياسية والثقافية فحسب، بل قذفتنا أيضاً بتلال من الأبحاث والتحليلات والمذكرات والروايات والدواوين الشعرية، وكلها يتحدث عن محصول وفير من التحولات البنيوية في العقل والذائقة العربيين. ولا يسع المرء، بعد مرور ست سنوات، إلا أن يتأمل ذلك الحصاد بمزيد من الحسرة عندما يعيد طرح السؤال مرة أخرى: وما الذي تغير في بنية العقل العربي أو في ذائقته؟!
وإذا كان تقدُّم شعب من الشعوب يقاس بمدى تفهّمه التطور، فإن نجاح الثورات كذلك يقاس بعمق التحولات التي يمكنها أن تطرأ على أنماط التفكير البطريركية التي ثار عليها العقل العام رغبة في صناعة فضاءات جديدة من التفكير الحر. لذلك، سيبقى بين أغرب ما يصادفه المرء أن تنتهي الثورات العربية إلى تربُّع «الفقه الأسود» في صدارة المشهد الثقافي العربي متجاوزاً في ذلك أنماط الوسطية التي عززها الفقه السّني بداية من أبي منصور الماتريدي مروراً بالإمام الغزالي ومتجاوزاً كذلك أنماط التفكير المعتزلي الذي بدا في لحظة هو الأكثر مروقاً بسبب اشتغاله على علم الكلام.
لذلك، لم يكن مدهشاً أن يصادف المرء في أيامنا تلك مقالاً لأحد علماء الدين يهيل فيه أبغض اللعنات على نظرية أصل الأنواع لتشارلز دارون؛ مؤكداً أن الكنيسة نفسها احتسبته من المارقين، غير عابئ بالتحولات التي اعترت العقل الغربي تأثراً بتلك النظرية، ما انتهى إلى تجاوز المؤسسات العلمية المتقدمة موقف الكنيسة التي رفضت دارون قبل أكثر من 150 عاماً للأسباب نفسها التي يتشبث بها علماء المسلمين حتى اليوم. في مقدمة ترجمته لإحدى طبعات «أصل الأنواع»، يشير مجدي المليجي إلى أن معظم منتقدي دارون لم يقرأوا كتابه، وأن غالبيتهم استنكرت فكرة خلق الإنسان على هيئة القرد، على أنها وردت فيه، مع أنها جاءت في كتاب آخر هو «أصل الإنسان»، على غير الطريقة التي شاعت بها، إذ ورد هذا المعنى ضمن أنماط التفكير التي بدت جارحة لنرجسية الكهنة ونرجسية الإنسان عموماً.
المعركة إذاً، كانت بين أنماط من الفكر التقليدي تؤمن بأن الكائنات الحية من القيم غير القابلة للتغيُّر، ومن ثم لم تترجم الثقافة العربية مفهوم الانتخاب الطبيعي سوى باعتباره قيمة فلسفية تضفي مزيداً من البريق على فكرة الاستئصال. لذلك، لم يكن غريباً أن يسخر الدميري في كتابه «حياة الحيوان» مما واجهه مسكويه من متاعب عندما قال: «إن الإنسان ناشئ من آخر سلسلة البهائم لكنه قابل للارتقاء».
واجه المتاعب نفسها «إخوان الصفا» عندما تحدثوا عن مفاهيم ضبابية حول الانتخاب الطبيعي والانقراض وعن الوحدة بين عوالم الحيوان والنبات والجماد، وهو ما أشار إليه إسماعيل مظهر في ترجمته المبتسرة لـ»أصل الأنواع» قبل أكثر من سبعين عاماً. نحن هنا أمام نمطيْ تفكير، أولهما مغامر وجسور استطاع حسم الصراع مبكراً لمصلحة المستقبل بالقول أنه ليس ثمة تناقض بين ما يعتقد رجال الدين أنه من المتناقضات لأن رب العلم هو رب الدين. أما ثانيهما، فما زال يتقوت على أطعمة الكهوف ويرى أن الكون خُلق على الهيئة التي نراها وفقاً لنصوص خضعت لتأويلات كثيرة عبر الزمان والمكان. علي مبروك في كتابه «الإمامة والسياسة»، أشار إلى أن نمط التفكير الغربي يبدأ من الماضي باحثاً عن المستقبل، أما الحضارة العربية فهي إمامة تبدأ من الحاضر بينما تستهدف العودة إلى الماضي.
ولعل تثبيت صورة الماضي هنا يعني ضرورة تعظيم قيمة إسناده إلى الغير، ومن ثم تعاظم أهمية العنعنة مقابل الخفض من قيمة التجدي. لذلك، تظل الهيمنة للروايات القديمة التي لا يبدو صدقها مرتبطاً بسلامة منطقها بل بقوة شهودها. من هنا، ليس مدهشاً أن يكون الزمن في الثقافة العربية زمناً مطلقاً وسرمدياً في أقوال الفقهاء فضلاً عن قصائد الشعراء. وسيتم إقصاء محاورات المفكرين الذين تحدثوا عن الزمن النفعي أو الذاتي مثل ابن المقفع في رسالة «الراعي والرعية»، وكذلك لدى ابن قتيبة والجاحظ والتوحيدي. وأظن أن ما قال به الفلاسفة المسلمون حول حداثة الزمن لاقى مصيراً مؤسفاً مثلما حدث مع ابن رشد.
لذلك، تبدو المسافة شاسعة بين تصوراتنا عن الزمن المطلق وبين تصورات رجل الدين البروتستانتي القديس أوغسطين، مثالاً، عن القضية ذاتها حيث يشير إلى أن الحقيقة تقول: طالما أن الله خلق كل شيء في هذا الكون فإن الزمن مخلوق بالضرورة، وطالما سلمنا بأنه مخلوق فهو يخضع للصيرورة ومن ثم فهو ليس أزلياً شأن كل المخلوقات. ومن هنا، اجترأ نمط التفكير الغربي على الماضي وامتلك جسارة إعادة تقييمه وقراءته.
فهل لتلك القراءة أن تفسر مسلك هؤلاء الذين يرتدون أزياء القرن الأول الهجري في القرن الحادي والعشرين الميلادي، بينما يتمنطقون بأحدث الأسلحة لإفناء من يعتقدون أنهم خصومهم سواء كانوا على دينهم أو على غيره من الأديان؟
لقد لعن كثر من مفكرينا مستشرقين استحقوا اللعنة، لكن وهم في الطريق إلى ذلك لم يتبينوا علمية ما قام به هؤلاء بتحويل الاستشراق إلى مدرسة ونمط من أنماط التفكير المنظم لقراءة واقع غفل أهله عن تأمله. وليس مستهجناً أن تبدو خطابات الاستشراق متعالية وتعمل لمصلحة وحشية السياسة بقصد أو من دون قصد، لكن المؤسف يكمن في اعتقاد البحث العربي أن من مهمة الاستشراق تعليم أمم لا ترغب في التعلم. ومن المثير للدهشة أن ينتقد محمد أركون منح درجات الدكتوراه للطلاب العرب بسهولة في الجامعات الغربية، ويرى أن ذلك يتخذ طابعاً احتقارياً، بينما يعلم جيداً أن الغرب لم يمنع أحداً من تملك منتجات المعرفة لكنه لن يسمح لأحد بأن يملك المعرفة نفسها.
وأظن أن أركون نفسه، في معرض انتقاده العقل العربي، قال الكثير مما يبرر هذا المسلك الاحتقاري الذي يتأفف منه. ومن المؤكد أن الرجل كان يدرك أن فهم الثقافة العربية للتاريخ يبدو في أقصى حالات هزليته قبل ثورات الربيع العربي وبعدها. فالتاريخ، ضمن هذا الوعي السرمدي المسيطر، هو الذي يعيد رصف المفاهيم، أعني أنه يقوم بإخضاع الحاضر لمنطقه، بينما الأصل أن مفاهيمنا عن التاريخ هي التي يجب أن تحكم أنماط قراءته. ويبدو أن يقين ذلك الحديث المتأخر والمستعاد بمضامين تمثل حقيقتنا الراهنة بكل أسف، هو ما يدفعنا إلى طلب العون من هؤلاء الذين وعدوا الملايين بالإقامة في المستقبل ضمن ثورات أتمنى أن يكون لنكوصها معنى آخر سوى خيبة الأمل.
(الحياة)