الخطاب والمنظور السردي في مرويات ليلى الأطرش

نضال القاسم

صدر مؤخراً للكاتب الأردني ابراهيم خليل عن دار الآن (ناشرون وموزعون) بعمان تحت عنوان «جولات حرة في مرويات ليلى الأطرش 1988- 2014» الذي يتضمن مقدمة، وثمانية فصول، وملحقًا.
يتناول المؤلف في الفصل الأول من فصول الكتاب صورة المرأة في روايتي و»تشرق غربًا» و»امرأة للفصول الخمسة»، وفي الفصل الثاني يتناول السرد وأقنعته في رواية «امرأة للفصول الخمسة»، مؤكداً ما فيها من تقنيات سردية حداثية. وفي الفصل الثالث يتناول الخطاب النسوي في رواية «ليلتان وظل امرأة». وفي الفصلين الرابع والخامس وقفتان إزاء رواية «صهيل المسافات»، وما فيها من كتابة سردية متحرّرَة من نون النسوة. ويقف بنا المؤلف في الفصل السادس إزاء رواية الكاتبة الموسومة بعنوان «مرافئ الوهم»، جامعًا بين تحديده لمكونات الخطاب السردي، ومرتكزاته البنيوية؛ من حوادث ومن شخوص ومن وظائف وتحولات. وحول السرد المؤطر في رواية «أبناء الريح» يدور الفصل السابع، فيما يتناول الفصل الثامن رواية «ترانيم الغواية» من خلال قراءة بعنوان (ترانيم الغواية؛ بين التاريخ، الأسطورة، والواقع). أما الملحق، الذي هو بمثابة الفصل التاسع، فيتناول فيه الدارس كتاب (نساء على المفارق) وهو شهادات عن نساء التقتهن الكاتبة، فكانت لها معهن ذكريات، وحورات، في مؤلف وثائقي.
هكذا تراوح القراءات بين القراءات الجامعة التي تنظر إلى منتج ليلى الأطرش في شموليته، وبالنظر إلى تكامل مكوناته، وأخرى تختص بأعمال مفردة، تتناولها بالنظر إلى جدتها في حقلها المعرفي ومدى ما تستثيره من أسئلة وإشكالات في مجالها النقدي. ويتناول الكتاب عبر فصوله الثمانية تجربة ليلى الأطرش في سياق الرواية العربية، ودراسة مسارها السردي، وجماليات النص التفاعلي والمترابط، وبذا فإن العمل الحالي يكتسي بعداً وصفياً وتقييمياً في آن، ويمثل جهداً توثيقياً مهماً، لإبراز إبداعات كاتبة مبدعة قدمت جهداً إبداعياً عبر عدة عقود، للثقافة العربية، وأغنت مؤلفاتها المكتبة العربية، من خلال همّ ثقافي متواصل ومستمر. وفي المحصلة تكاد القراءات المضمنة في هذا الكتاب تتناول مجموع أعمال ليلى الأطرش الممتدة من «وتشرق غرباً» عام 1988 إلى «ترانيم الغواية» عام 2014، مروراً بباقي الأعمال، يضاف إليها ملحق يتضمن قراءة في كتاب «نساء على المفارق»، ويسلط الضوء على بعض سجايا الكاتبة الثقافية والإنسانية.
إن ما يميز دراسات هذا الكتاب أنها جاءت في فترات زمنية متنوعة، كما أن ما يبرر اختيارها، كونها نصوصاً متساندة، بما يتضمنه معنى التساند من إحاطة بمجمل اجتهادات إبراهيم خليل، وأسئلته وهمومه الفكرية والمنهجية، غير أن تساندها لا ينفي تباينها، سواء من حيث المرجعيات أو في المحصلات والنتائج، وبالنظر إلى بنيات الوصف والتقييم على حد سواء. ويتألف الكتاب كما سبق أن ذكرناً من دراسات نقدية متميزة وغنية، أُنجزت عبر مناسبات متباينة، وخلال مدى زمني طويل نسبياً، وبعض الدراسات سبق لإبراهيم أن نشرها في بعض الصحف والدوريات المحلية والعربية كمجلة «أفكار» ومجلة «علامات في النقد»، وأعاد في هذا الكتاب جمعها وتبويبها وتشذيبها، ونشرها مجدداً بين دفتي كتاب جامع، بعد أن وضعها في سياقها اللائق، بما يصون الغرض الذي كُتبت من أجله، وييسرها مجدداً للقراء والباحثين والدارسين والمهتمين بقراءة كل أشكال التجربة الإبداعية لليلى الأطرش.
ولابد من الإشارة في هذا الإطار إلى أن هناك خاصية أساسية تتمثل في الترابط بين النصوص النقدية المكونة لهذا الكتاب، ما يعطي للخطاب النقدي نوعاً من الوحدة في الهدف الذي يريد تحقيقه، وتتأكد هذه الفرضية بالرجوع إلى مقدمة الكتاب والفصول الثمانية والملحق. إذ أن الباحث استرجع في المقدمة الخلاصات التي كان قد انتهى إليها في الدراسات السابقة، ما أعطى للمقدمة طابع المقدمة الاسترجاعية، هكذا يتبين من خلال المقدمة أن الكتاب توسيع وتحيين للأسئلة التي كان قد طرحها في دراساته السابقة حول تجربة ليلى الأطرش. وبعد استعراض أعمالها الإبداعية وتحليل مكوناتها ينتهي إلى تقديم تصوره الخاص. بهذا التصور يباشر الناقد عملية الانتقال من المقدمة إلى الاشتغال المباشر على النصوص الروائية، والمتمثلة في: «وتشرق غرباً، وامرأة للفصول الخمسة، وليلتان وظل امرأة، وصهيل المسافات، ومرافئ الوهم، وأبناء الريح، وترانيم الغواية».
ويرى الكاتب في مقدمته للكتاب أن البواكير الروائية الأولى للكاتبة ليلى الأطرش، اتكأت على المرأة في أداء دور البطولة، بيد أن روايتها الرابعة «صهيل المسافات» شذّت عن هذه القاعدة، واتخذت من الرجل – صالح أيوب – بطلاً، وسارداً في الوقت نفسه، كما لو أنه يكتب قصته من أجل أن تكون مسلسلاً درامياً مثيراً على حد قوله. ويرى إبراهيم أن ليلى الأطرش واصلت البحث عن لغة جديدة لكتابة سردية متنصلة من تبعات الأشكال النمطية فاهتدت في رواية «مرافئ الوهم» إلى تكوين جديد تنتفع فيه من فن السيناريو، والبرنامج التلفزيوني، تداخل في الأمكنة عبر المشاهد، يوازيه تنقل بالقارئ من فضاء لآخر، ومن شخصية لشخصية أخرى، ومن موضوع يستأثر بعناية السارد (س) إلى موضوع يستأثر بعناية السارد (ص) صوتٌ يمثلُ هذه الشخصية، وصوتٌ يمثل شخصيةً أخرى.
أما فيما يتعلق برواية «رغبات ذاك الخريف» فيرى الناقد أن الكاتبة وقعت تحت سحر المكان، وحرصت في هذه الرواية على الافتتان بالأمكنة، والتوقف لدى الكثير منها، وقوف مصور تلفزيوني أو سينمائي، لتسلط الضوء على بقعة مهمشة هنا، واخرى مثيرة للاهتمام هناك، بقع ومساحات متنافرة الألوان، من خلال مخطط سردي مضمر غايته إبراز مدينة عمّان وإقحامها في التفاصيل المحكية.
أما رواية «أبناء الريح» فهو يرى أنها تلتفت للمهمشين والمسحوقين، من أبناء المجتمع، كالأيتام واللقطاء والمنسيين، ممن قادتهم أقدارهم لينشأوا نشأة شاذة في الملاجئ أو دور الأيتام، وثمة حكايات أخرى متداخلة في الرواية.
وكان لافتا أن يستهل الناقد فصول الكتاب بمقدمة يكشف من خلالها على الجهاز المفاهيمي النظري، الذي سيشتغل عليه، لكن الملاحظ أن الناقد تجاوز نطاق التقديم النظري المشار إليه إلى تكييف الممارسة النقدية نفسها حتى تنسجم مع المنطلقات النظرية المقدمة، وكأن المعادلة التي تحكم العلاقة بين النص والنظرية النقدية أصبحت مقلوبة: بحيث يبدو الناقد منقاداً لخدمة الأفكار النظرية بواسطة النص، لا لخدمة التحليل بواسطة الأفكار.
وهكذا نلفي إبراهيم خليل في مقدمته يتعامل مع الروايات بتفاعلية وهو يشكل بذلك انقداح شرارة الوجود للنص، وبالتالي فاللغة لا يمكنها أن تحيط وحدها بالمعنى ما لم يكن للذات القارئة دور في استنطاق بنيتها لتبوح لها بمكنوناتها. إن خطاب الناقد إبراهيم خليل في الكتاب الذي بين أيدينا يملك قوة انتظامه الذاتية، ومرجعيتّة كما يملك فرضيات نابعة من صميم الثقافة العربية ومن صميم الممارسة الإبداعية والفكرية الخاصة به.
وعليه، فإن خلاصة الخلاصات التي أراد الدكتور إبراهيم خليل أن يقولها من خلال المقدمة هي أن النص لا يحمل دلالته في ذاته، إلا في ارتباطه بالموضوع الذي يتلقاه: فكما يقوم الكاتب بإنتاج دلالة النص من خلال بنائه، فكذلك يفتح القارئ هذه الدلالات عن طريق إعادة بنائه. وإذا كان زمن النص محدوداً بزمن الكتابة، فإن زمنه في القراءة ينفتح على زمنية غير محددة. وبذلك تتعدد القراءات بتعدد أزمنة القراءة ونوعيات القراء وخلفياتهم الفكرية والأيديولوجية. وفي ما يلي صورة مركزة لمضامين الكتاب:
الملاحظة الأساسية التي يمكن تسجيلها حول الكتاب هي غياب الخاتمة التي تتضمن تحليلاً شمولياً للظواهر المدروسة؛ إننا لا نجد سوى بنى جزئية توصل إليها الناقد عند عرض كل دراسة من الدراسات التي يتضمنها الكتاب مع تطبيقات سريعة على الروايات المشكلة للمتن، مع أن الجهد التحليلي في الممارسة النقدية ينبغي أن ينصرف إلى صياغة العام والمشترك، وليس إلى الجزئي. كما أن أحد المآخذ الرئيسة من وجهة نظري المتواضعة هي أن الناقد لم يتعرض بالدرس والتحليل للتجربة القصصية لليلى الأطرش مع أن القصة القصيرة غصنٌ من أغصان شجرة السرد الوارفة، ولو أن الملحق تضمن قراءة نقدية لمجموعة «يوم عادي وقصص أخرى» لكان أفضل.
سلك ابراهيم الخليل في معالجة القضايا التي درسها في كتاب «جولات حرّة في مرويات ليلى الأطرش» المنهج العلمي القائم على البحث والتحليل والتعليل، والمستفيد من معطيات المناهج الأخرى، مثل المنهج التاريخي والاجتماعي والنفسي وغيرها. وقد قدمَّ المؤلف في هذا الكتاب العديد من الدراسات المهمة التي حللت وساءلت روايات ليلى الأطرش بأدوات التحليل والمساءلة النقدية الصارمة.
وإن قراءته المتأنية لتجربة ليلى الأطرش طيلة ربع قرن، مكنته من معالجة رواياتها المختارة بأدوات علمية تجعله يقدمها للآخرين في صورة واضحة، فكانت بذلك النظريات العلمية واللغـــــوية الحديثة التقنية المتطورة التي تسلح بها الباحث وسيلة ناجحة لسبر أغوار الخطاب السردي لليلى الأطرش، وتفسيره وتحليله بطريقة منهجية ورؤية شاملة مبنية على التناغم والمشاركة، والتآخي والتواصل، والبحث المستمر عن اقتراح تصور شامل لدراسة مختلف الظواهر النصيّة في روايات ليلى الأطرش التي كرّس لها المؤلف جهوداً كثيرة لدراستها وتحليلها بعمق وإدهاش كبيرين.
جولات حرة في مرويات ليلى الأطرش 1988- 2014» دار الآن (ناشرون وموزعون) /عمان 2017

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى