في إشكالية «النص الأدبي لعبة المرايا» لعبد الرحيم جيران

بدر الحمري

بعد مجموعة من المؤلفات النقدية: «في النظرية السردية» 2006، «إدانة الأدب» 2008 و»علبة السرد» 2013 و»سراب النظرية» 2013، وأخرى إبداعية، مثل «عصا البلياردو»2011 و»ليل غرناطة» 2013 و»كرة الثلج» 2013، و»سيرة شرفة» 2016. يأتي مؤلف عبد الرحيم جيران «النص الأدبي- لعبة المرايا» فبراير/شباط 2016، في 245 صفحة. قسم الكتاب إلى ثلاثة فصول- محاور؛ يحفر الأول في إشكالية تحديد مفهوم النص، ويفكك الثاني إشكالية المقارنة، وأصناف تحديد مفهوم النص في الفكر الغربي، أما الثالث فاهتم بمفهوم النص في التراث العربي.
فضلا عن المقدمة وما يشبه الخاتمة، التي وضع لها الكاتب العنوان الآتي: «ما يشبه الاستئناف» وهو يذكرنا بالإجابات الفلسفية التي لا تقدم يقيناً ثابتاً، وإنما تدفع المتلقي إلى الدهشة والشك من أجل استئناف النظر في مفاهيم ومعارف وقيم يطلبها العقل ويساجل من أجلها.
أما هذه المقالة، فهي تتناول إشكالية تحديد مفهوم النص، أو قل بصيغة أخرى إشكالية « إشكال مفهوم النص »، مدار التحليل والتأمل في كتاب عبد الرحيم جيران الأخير. فما مفهوم النص؟ وما النص الأدبي؟ وهل يمكنُ ضبط تحديدات ثابتة لهما؟ وأي المداخل المعرفية تحقق ذلك؟ إنّ الإشكالات السابقة تأتي بطريقة تجعلك تعيد إمعان النظر في ماهية النص ودلالاته، فضلا عن النص الأدبي. ومن ثمة فقد عنّ لنا، ونحن نقرأ الكتاب، أنّ صاحبه يشّكّ في طبقات مفهوم النصّ التي رص بعضها فوق بعض، سواء أكان ذلك بفعل التراكم التاريخي أم القطائع المعرفية. من ثمّة لم يكن أمام جيران في المحور الأول من الكتاب- وقبل أن يمضي في عرض أطروحته- إلاّ أن يعيد الحفر في تلك الطبقات، مع ترتيبها معرفياً وتاريخياً وأدبياً… ولا أدلّ على هذا من تعريفات بعض الفلاسفة واللغويين والنقاد الذين استحضرهم، لا ليكونوا محلّ حجة لتصوره، وإنما محلّ خلاف وتأمل ليجعل من النّصّ مُشكلة. ولم يُقدَّم إشكال التحديد في الكتاب بوصفه خطوة منهجية رصينة في البحث فحسب، ولكن أيضا بصفته إشكالا فلسفيا- أدبيا في حدّ ذاته؛ بمعنى أنه إشكال يطرحُ إشكالات أخرى متعددة، تتناسل وتتوالد في سياقات حوارية ضمنية في غالب الأحيان، مع رموز معرفية، سواء أتعلق الأمر بمجالها المباشر الأدب – كما يدلّ على ذلك العنوان «النص الأدبي»- أم بمجالاتها غير المباشرة: فلسفية، ولسانية، وبلاغية، وهرمونوطيقية، وسوسيولوجية، وسيكولوجية وإبستمولوجية… إلخ؛ مما يكشفُ أمام القارئ مناحي التكثيف التي تتوجه إليها تحديدات «مفهوم النصّ». سيظهرُ- من هنا ولا شكّ- أمام القارئ سؤال صّعب: هل هناك تعريف نهائي للنص؟
إن تحديد النصّ في ماهيته وجوهره جعل الباحث يقف عند معضــــلات ومزالق نظرية، تتطلب الحذر في التعامل مع النص؛ مما دعاه إلى معالجتها، وتمكين المشتغل بالنقد، أو بنظرية الأدب، من رؤية واضحة إلى مفهوم النص. ونذكر من بين هذه المعضلات:
– ما تحمله الذات من فائض التصورات في تنظيرها لمفهوم النص؛ ما يجعلها تفيض على الموضوع في مجال تحديد مفهوم النص، وما يلاحظ من عدم الاستقرار في عملية التحديد التي تطال عمل المشتغلين بنظريات النص أو النقد؛ بل قد يواجهنا ورود أكثر من تعريف له – وعلى نحو متباين- عند منظّر واحد بعينه. كما هو الحال مثلا عند رولان بارت في تحديداته النص بطريقة مجازية، حيث تصل درجة قصوى من الاختلاف. وإن حدث ووجد ثبات في تحديد مفهوم النّص فهو لا يكون إلاّ من جهة التمانع الذي ينفي عن التحديدات الأخرى حقها في التصور؛ والمقصود بهذا أن المفاهيم عند جيران تنتج صراعاً داخل حلبة التصورات والمعاني في الذات المنظرة.
– أما الموضوع، ومن منطلق أنه يفرض على الذات توفر الموضوعية، فهو يطرح إشكالات من صميم ذاته، من جملتها إشكالية الاستقرار؛ والمقصود بها «ثبات الخاصيات الجوهرية المميزة له، سواء أكانت مادية أم غير مادية، ولهذا الثبات صفة التكرار في الزمان، بما يضمن إمكانية تحديد الهوية المحددة للموضوع والتعرف».
من ثمّ، تطرح أمام الباحث إشكاليتين:1- «التحيُّز» في بناء النظرية، وكيف أنه – التحيّز – يدمر المفهوم، من خلال إقصاء ضمني للتصورات النظرية التي تتضمنها النظريات الأخرى، يقول جيران في هذا السياق «إنّ التحيّز داخل اتجاه نظريّ معيّن يتضمن بطريقة مضمرة نفي صحة التحديد عن الاتجاهات الأخرى المغايرة له، ومعنى هذا توصيف ما يقع خارج تحديده الخاص باللانصّ…».
2- إشكالية «المنظومة المعرفية»؛ بمعنى أن بناء مفهوم النص لا ينفـــــلتُ من مســـبقات نظرية، أو قل إن نظرية النص تستعيد دائماً مفــهوم النص «من رحاب نظريات أخرى تعاصرها أو تسبقها مدّعية تملكها وحدها حق شرعية الحسم في هويته».
ومن خـــــــلال النظر في خلاصات دراسة النص عند مجموعة من المدارس اللغـــوية والأدبية والفلسفية المعاصرة، وعرض هذه التصورات النصية بطريقة فاحصة ومكثفة، يظهر في سياق كلّ ذلك النصف الثاني من العنــوان «لعبة المرايا»، الجميل والممتع جدا،ً بوصـــفه يحـــمل تعدداً في الدلالات، كما لو كانــــت لعبة يمــــرح في فضاء متعتها الفكر. هذه اللغـــة تقودنـــا إلى طرح إشكال آخر: كيف يمكنُ أن نجمع بين النص والأدب واللعبة والمرايا؟ أربع كلمات واثقــــة من سيرها إلى مضــــمون الكتاب، بالشكل الذي يمنحـــها قوة الأسئلة المحـــددِّة لماهياتها وثباتها، وفحص جذورها العلائقية المعرفية.
لكن هل ستمنعنا المرايا من السؤال عن ماهية النص عامة والنص الأدبي بصفة خاصة؟ وإن كانت هذه الخصوصية سرعان ما تنتفي عند قراءة مقدمة الكتاب؛ فمما لا يمكنُ ردّه في هذا الصدد أنّ قراءة النصف الثاني من عنوان المؤلف «لعبة المرايا» يدلّ على لعبة واحدة في وحدة تشكلّ النص الأدبي، والحال أنّ كلّ ما ينتمي للصنف الأدبي يتعدد دوماً ويختلف، ليس فقط من خلال النظريات النصّية، أو القضايا النصية التي تطرحها والأصداء التي تحدثها، ولكن أيضاً من خلال إشكال الانتساب إلى تيار معرفي يفضي إلى «هويات نصية متعددة: النّص الجدلي- النص البنيوي- النص البنيوي اللساني- النص الظاهراتي- النص الهرمونوطيقيّ ( قبل هايدغر) ـ النصّ الهرمونوطيقي ( بعد هايدغر) النص التوليدي ـ النص السيميائي، النص التداولي… إلخ؛ وبالتالي فإننا نصبح أمام لُعب وليس لعبة واحدة؛ كلّ نظرية لها لعبتها الخاصة، ومراياها المتعددة فيها أو تلك التي تعكس وجوهها، فلا مجال للاستقرار ولا حاجة إلى الثبات.
إن مفاهيم النص التي يناقشها الكتاب، والتصورات البديلة التي يقدمها، تؤكد مرة أخرى أنّ النص من المفاهيم الحية التي ستبقى أبد الدهر الثقافي الإنساني، تُستشكل ويُعاد النظر فيها، أي أنها من المبهمات التي تستدعي التأويل؛ فالإنسان لا يمكنُ فهمه إلا في النصّ، ومن خلال النصّ.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى