في معرض المصرية عزيزة فهمي: الموروث وتجلياته من خلال فن الفسيفساء
محمد عبد الرحيم
يعتبر فن الفسيفساء من الفنون ذات الجذور والتقاليد الراسخة، خاصة في المجتمعات الإسلامية، التي تحايلت على تحريم التشخيص، بإنتاج جماليات قائمة على تكرار العنصر التشكيلي وتحويره ــ سواء الخط أو الشكل والكتلة ــ فإن لهذا الفن من القواعد ما يجعل من الصعب الخروج عليها، فتصبح محاولة ربطها بوعي حداثي ينتهج التجديد، مع الحفاظ على هوية الفنان، هي محاولة جديرة بالمتابعة والاقتراب من التجربة. هذا ما يمكن ملاحظته في معرض الفنانة عزيزة فهمي، الذي أقيم مؤخراً في قاعة (الباب) في دار الأوبرا المصرية، واستعرضت من خلاله العديد من الأعمال التي تعيد إنتاج لحظات حضارية في الوعي والتاريخ المصري.
التشخيص والخطوط
بعض الأعمال تتخذ من البورتريه موضوعاً لها، ومن خلال استعراض وجوه دالة على فترة تاريخية، كالوجود اليوناني في مصر، أو ما يشبه وجوه الفيوم الشهيرة، الوجوه هنا تبدو غير مكتملة، وكأنها آتية من زمن قديم، أو تم اكتشافها حديثاً من خلال لفافة أثرية، هذا ما توحي به اللوحة. الحالة الأخرى هي استنساخ بعض اللوحات من أنسجة أثرية ــ القبطية بشكل خاص ــ والأمر لا يعدو مجرد استنساخ، بل محاولة لاستنطاقه وعودته للحياة من خلال تقنية الفسيفساء بكل تفاصيل لوحة القديس المنسي، من الهالة المعهودة التي تحيط الرأس ونظرة العين الشاخصة، وبعض زخرفة تحيط بالوجه، كإطار عام مستوحى من ذاك العصر. هذه الزخارف أيضاً تصبح خلفية للوحة أحد الطيور، كذلك هو نفسه في ريشه الملون، الذي لا يتشابه معه في الحقيقة، فهكذا جسده الفنان الأول، وهكذا استنسخته الفنانة من خلال قطع الرخام المتداخلة، صانعة منه صورة أخرى أكثر حداثة، دون نسيان الشكل والخطوط التراثية التي تصر على الحفاظ عليها في تقنيتها الجديدة.
وإن كان التشخيص يقتصر على الفترة اليونانية والمسيحية في مصر، فالتواصل يأتي من خلال الخط العربي، وهو ما يشير إلى المرحلة الإسلامية في التاريخ المصري، وما بين سطح اللوحة والخط المرسوم توحي الفنانة أيضاً بتشكيل أقرب إلى الرقاع الجلدية المعهودة، التي كانت تُكتب عليها الرسائل أو المراسيم، رقاع متآكلة الأحرف مما يوحي بقدمها، وحروف غير مكتملة لتشكل كلمة، فالإيحاء هنا أكثر دلالة من مجرد النقل، أو تمثل حالة فنية ونقلها عبر وسيط تشكيلي آخر.
ما بين أحمس وأبي زيد الهلالي
وتحاول الفنانة عزيزة فهمي أن تربط من خلال لوحاتها بين التاريخ المصري القديم والتاريخ الشعبي المتأصل في نفوس المصريين، حيث السير الشعبية ومكانتها في الوعي المصري. فيحضر «أحمس» محرر مصر الأول في معركته الشهيرة ضد الهكسوس، ويقابله ما يشبه مسيرته الشعبية، المتمثلة في أبي زيد الهلالي، وكل من اللوحتين ــ رغم الفارق ــ تبدو في توافق وتناغم تام مع الأخرى، فهذا البطل أو ذاك كلاهما له مكانة من التقديس في نفوس المصريين.
الطبيعة والحضارات الأولى
وعبر تقنية الفسيفساء التي يمكن من خلالها استخدام الرخام والأحجار، يمكن تمثل تشكيلات طبيعية، وكأنها من إنتاج الطبيعة ذاتها، كالأحجار والقطع الصخرية متداخلة الألوان، كذلك حكايات وحضارات مجهولة، هكذا يسجل الإنسان أحداثه على جدران الكهوف، وهكذا تعيد إنتاجها الفنانة في رؤية جديدة، توحي بالاستمرار ومحاولة استقراء جميع مراحل التاريخ الإنساني.
الفنانة عزيزة فهمي تخرجت في كلية الفنون الجميلة قسم التصوير عام 1964، درست الفسيفساء في أكاديمية الفنون الجميلة في رافانا في إيطاليا عام 1982، شاركت بأعمالها الفنية في العديد من المعارض الجماعية والشخصية، كما قامت بتنفيذ عدة أعمال جدارية داخل مصر وخارجها.
(القدس العربي)