الكتابة والوجود في «قصص قصيرة» لنجيب محفوظ

محمد غرناط

أصدرت مجلة «الدوحة» عدد 114-2017 ، كتابا إبداعيا مهما يتضمن قصصا قصيرة لنجيب محفوظ، كتبها في أعداد مختلفة من المجلة ما بين 1979 و1986 والملاحظ أن هذه النصوص تختلف من حيث الحجم، فإذا كانت بعض القصص تتألف في الغالب من عدد محدود من الصفحات ما بين 3 إلى 10 صفحات، فإن قصصا أخرى يفوق حجمها هذا العدد إذ تتكون إحدى هذه القصص مما يقارب 70صفحة وأخرى من حوالي 30 صفحة، وهذا على كل حال ليس غريبا، إذ نجد نصوصا يتراوح حجمها ما بين 20 و30 صفحة بأعداد كثيرة لدى كتاب عالميين أمثال بالزاك، إدغاريو، فوكنر، طوني موريسون وغيرهم، كما لدى كتاب عرب من مجايلي محفوظ كيوسف الشاروني ومحمود تيمور.
في هذه القصص ظل نجيب محفوظ وفيا لمنهجه في الكتابة، الذي اعتمده في رواياته وقصصه القصيرة وقد بدأه منذ فترة مبكرة من حياته الأدبية، وظل يتجدد ويتطور مع تجدد وتطور الموضوعات التي يعالجها، ويتجلى هذا المنهج في مظاهر مختلفة تعد من الخصائص الأساسية للمدرسة الواقعية، التي أسست لهذا النمط من الكتابة السردية، سواء على صعيد الشكل الفني أو على صعيد الأسئلة التي تطرحها حول الحياة والواقع الاجتماعي والإنساني. ومن بين هذه المستويات الأكثر بروزا في هذه النصوص مستوى الزمن النصي، الذي لا يشكل فقط مساحة كرونولوجية تجري فيها أحداث القصة، ولكنه أيضا سؤال أو مجموعة أسئلة تؤرق الشخصيات وتتحول في بعض الأحيان إلى هواجس تلازمها في حركاتها وسكناتها. فمن الناحية الشكلية يلاحظ أن الأحداث تغطي في معظم النصوص فترة زمنية تمتد لسنوات، في قصة «مولانا» رغم ما فيها من تركيز يتمحور حول اكتشاف الشبه بين الشخصية الحكائية والملك، وما جر عليها هذا الشبه من متاعب، فإن عملية السرد تتسع لتشمل فترة زمنية تمتد من عهد الملك فاروق إلى ما بعد الثورة، ليصل إلى مرحلة الثمانينيات، كما تدل على ذلك عدة قرائن زمنية..»استقر الرأي على اعتقاله ووضعه في الطور، باعتباره من الخطيرين على الأمن الواجب استبعادهم، وتم التخلص من فاروق «الثاني» واطمأنت القلوب وكاد ينسى تماما. وقامت ثورة يوليو/تموز وانهالت المطارق على العهد البائد وكتب أحد الصحافيين عن واقعة شبيه المالك المخلوع المنسي في المعتقل، فكانت كلمته إيذانا بالإفراج عنه».
وفي قصة «خطة بعيدة المدى» يبلغ عصام القبلي 70 سنة من عمره ويقدم السارد تفاصيل من حياته تغطي كل هذه الفترة، وهو في لحظة فارقة من حياته، تحول فيها من صعلوك متسول إلى مليونير، فترة الطفولة الصبا الشباب، والتجارب التي عاشها والمحن التي مر فيها، إلى أن تغيرت أوضاعه المادية، وهي النقطة الزمنية التي تشكل مدار السرد، بحيث أن السارد ينطلق منها ويعود إليها، ما بين الحاضر والماضي.. «كان يكره العمل كره العمى وفي وحدته عندما يغيب الأصدقاء في أعمالهم يقضي وقته في الكسل وأحلام اليقظة، يبتل ريقه بشيء من اليسر في مواسم الانتخابات والأفراح والمآتم. عاش دهره بفضل خفة روحه وكرم أصدقائه واحترف التهريج.. أما أحلامه فتهيم دائما في وديان من الولائم الغامضة، والجنس المكبوت، وكانت له أساطير عن غراميات مع أرامل ومطلقات ومتزوجات أيضا فلم يصدقه أحد ولم يكذبه أحد، طبع بصورة المتسول منذ شبابه الأول».
ومما لا بد من تسجيله في هذا النطاق أن الزمن في هذه الصورة يذكرنا بالزمن الروائي الممتد الذي يشغل مساحات واسعة، وفي بعض الحالات فإن الفترات الزمنية الطويلة تدفع الراوي إلى استخدام أسلوب التلخيص الذي يختزل فترات معينة من الزمن في جمل سردية مختصرة، وهي تقنية من التقنيات الزمنية التي استعملها كتاب الرواية الواقعية، بغرض تسريع السرد وتسريع نمو الحكاية. وهذه الخلاصات في قصص نجيب محفوظ تقدم رؤية للزمن ترتبط بمصائر الشخصيات والفضاءات التي تؤطر أفعالها، على نحو ما نلاحظ في قصة «يرغب في النوم»: «دورة من العناء والضجر واليأس، ولا أحد يعرف الشماع وأسرته. كانوا أسرة كاملة مكونة من أب وأم وأخ وأخت من رحل يا ترى ومن بقي؟ نصف قرن ليس بالزمن القليل. عمر طويل دالت فيه دول وقامت دول، وهل تنسى أيام التعاسة الأولى، أيام القحط والأزمة وإن يكن جيل مضى ألم يخلق جيل جديد؟ ألا توجد همزة تصل بينه وبين ذلك الزمن الغابر؟ هل يرجع كما جاء ليجد الذكريات فوق فراشه ترصده بنظراته القاسية؟».
وهذه الملاحظة تقودنا إلى الحديث عن عنصر آخر بارز في هذه النصوص هو بدوره يجعلنا نستحضر أجواء الرواية، وتحديدا الرواية الواقعية، ويتمثل في المركز الذي تحتله الشخصية والاهتمام الذي أولاه السارد لها وقد قدمها على نحو أبرز فيه أحوالها النفسية والاجتماعية، بما يتلائم مع أسلوب حياتها ورؤيتها للواقع والوجود، كما في قصة «تحت الشجرة».. «اختار كرسيا وجلس بجسمه الطويل النحيف المتهاتف، وبنطلونه الرمادي وقميصه الأبيض، نصف كم ورأسه الكبير المخروط بالشيب، ووجهه الغامق الموسوم بالعناء».
وكان في هذه اللحظة قد عاد إلى المقهى بعد غياب سبع سنوات وجد فيها الواقع في حالة أثارث دهشته واستنكاره. وهكذا تتوزع شخصيات القصة هواجس وأحلام وأحاسيس الخيبة بفعل ما يعترضها من عوائق. إن «بطل» قصة «غمضة عين» على الرغم مما تحقق له من رغبات، فإن غياب الأمان والثقة جعله يشعر «بأن محنة جديدة تتربص به بين الأصحاب، أو في أعماق ذاته، ومن الآن فصاعدا ستكون السعادة هي المشكلة، ستكون المشكلة هي الدفاع عنها والمحافظة عليها للنهاية إن أمكن». نرى أن الشخصية القصصية بحكم ما تعيشه من محن وتعانيه من متاعب يغلب عليها الإحساس بالإحباط والقلق والتوتر، في مجتمع يحول بينها وبين تحقيق أهدافها، وهي الأحاسيس التي نلمسها على مستويات مختلفة، تخص بصورة عامة البناء الجمالي لهذه النصوص، من لغة وحوار وفضاءات وغيرها، التي على الرغم مما فيها من أسئلة حول الحياة والوجود فإن أسلوب الكتابة فيها يرتكز على مقومات ومبادئ المدرسة الواقعية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى