فيلم الأمريكي فرانسيس فورد كوبولا: إعادة إحياء «العراب» بعد مرور 45 عاما على إطلاقه
سليم البيك
في مهرجان ترايبيكا السينمائي، في نيويورك، اجتمع مؤخراً أبطال فيلم «العرّاب» (The Godfather) بعد عرض لأجزائه الثلاثة، للحديث عن الفيلم وتحدّيات تصويره وإنجازه، في مقدمتهم المخرج فرانسيس فورد كوبولا وكل من آل باتشينو وروبرت دينيرو، وآخرون. وذلك بمناسبة مرور 45 عاماً على صناعة واحد من أهم الأفلام في تاريخ السينما في العالم، وأكثرها تأثيراً في الثقافة الأمريكية والنتاج الثقافي العالمي، وهي مناسبتنا هنا للتذكير به.
جمع الفيلم، كما لم يفعل غيره، بين الفنّي والجماهيري، فنال بأجزائه الثلاثة جوائز وتقييمات نقدية عالية، كما صارت رموزه أيقونات لدى محبي السينما، وغيرهم، في العالم، فهو من الأفلام الأكثر إعادةً للإنتاج بشتى الأشكال، الفنية منها والتجارية.
ليس «العراب» ثلاثية يجمع بين أفلامه موضوع ما، بل فيلم واحد بأجزاء ثلاثة متتابعة يُفضّل مشاهدتها معاً، وإن خرج الجزء الأول إلى الصالات عام 1972، والثاني عام 1974، والثالث بعد انقطاع، عام 1990. لم ينل الثالث ما ناله الجزآن الآخران من مكانة نقدية وثقافية وسينمائية، ليس لنقص فيه بل أساساً لأن أول جزأين كانا، وهذا نادر، تحفتين سينمائيتين لمخرج واحد، تفصل بينهما سنتان، وتصعب مجاراتهما. وكل من الفيلمين/الجزأين يُعتبر، بحد ذاته، من بين الأفلام الأفضل في التاريخ، ليكون ضمّهما إلى بعضهما، مع الثالث، فيلماً واحداً طويلاً بتجربة مُشاهدة لا يتيحها فيلم آخر. نشير هنا إلى أن الجزء الأول نال المرتبة 21 في لائحة مجلة «سايت آند ساوند» العريقة لأعظم 100 فيلم في التاريخ، والثاني نال المرتبة 31، متقدّمين معاً على العديد من كلاسيكيات السينما العالمية، لكوبولا فيلم آخر في المرتبة 14 هو «أبوكاليبس ناو».
الحكاية، وهي متواصلة عبر أجزائه الثلاثة، وكذلك الشخصيات والمكان ما يجعلنا نعتبره فيلماً واحداً طويلاً، وإن تم إنتاجه متقطّعاً وإن، كذلك، نال مرتبتين في اللائحة المذكورة، هي حكاية عائلة إيطالية في أمريكا، هاجر مؤسسها فيتو كورليوني من صقلية، طفلاً، هارباً من قاتلي والديه، أنشأ مؤسسة لاستيراد الزيت، وكوّن عائلة، كبرت وكبرت معها أعمال الأب، ليكون على رأس إحدى أكبر المافيات في الولايات المتحدة، يموت ويخلفه ابنه مايكل كورليوني الذي يقضي على جميع أعدائه و»من يخيّب ظنّه» ويضع عائلته، أو المافيا التي يرأسها، في مقدمة المافيات الإيطالية الأخرى، ويواصل القضاء على أعدائه ومنافسيه، من خلال «تقديم عرض لا يمكن لأحدهم رفضه»، إذ أن نهايات الأجزاء الثلاثة تتزامن مع إعدامات يأمر بها مايكل. بعد سنوات ستتحول المافيا إلى مؤسسة خيرية لها علاقات مع الفاتيكان وكذلك مع متنفّذين في الدولة، ستسيطر المؤسسة على شركات ومؤسسات أخرى، دون أن يتوقف القتل.
هذه هي الحكاية الممتدة على تسع ساعات، والموزعة على الأجزاء الثلاثة بشكل غير مرتّب زمانياً، خاصة في الجزء الثاني، حيث تعود الحكاية إلى طفولة فيتو كورليوني وشبابه، وهذه إحدى ميزات هذا الجزء وهو الأقرب إلى المخرج كوبولا إذ اشتغل عليه بعد النجاح الواسع للجزء الأول، دون مضايقات من شركة الإنتاج. والفيلم مأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للأمريكي من أصل إيطالي، كما هو كوبولا، ماريو بوزو، الذي شارك في كتابة السيناريو له كذلك.
يُظهر الفيلم قسماً من حياة العائلة الإيطالية في أمريكا، المهاجرة منذ بدايات القرن الماضي، كما يظهر، بشكل غير مرتبط بالضرورة، حياة المافيات الإيطالية هناك، وذلك بتوازٍ تام بين البزنس، وهو هنا يتضمّن العمل المافيوي من جهة، وكذلك التجاري من جهة ثانية، وبين العائلة، بأعراسها وحفلاتها وعلاقاتها الحميمة، جداً، فالعائلة موضوع أساسي في الفيلم تملأ جوانبَه، ما يجعل كلمتَي العائلة وكورليوني في الفيلم تدلّان على كل من العائلة والبزنس/المافيا، معاً.
الفيلم الذي لاقى مخرجُه صعوبات عديدة في إنجازه، لعل أهمها تعامله مع شركة الإنتاج باراماونت، واشتراطاتها التي استطاع التغلب عليها أخيراً، من بينها رفضها أن يمثّل كل من مارلون براندو وآل باتشينو في الفيلم، وهما الآن من أبرز أيقوناته. الحديث عن الفيلم لا ينتهي، فهو فيلم كامل من نواحيه كافة: الحكاية الطويلة والمكتنزة بالإثارة، الموسيقى الرائعة، وهي لنينو روتا مؤلف موسيقى أفلام فيديريكو فلّيني، التصوير والسينماتوغرافيا، إخراج الفيلم بألوان دافئة مجانبة للتباينات بين الإضاءة والعتمة، ما أعطى الألوان الترابية والغامقة والفلتر المصفرّ طابعاً خاصاً. في الفيلم كذلك موقف سياسي/اجتماعي يربط بين المافيا والرأسمالية والمؤسسة الدينية، خصوصاً في جزئه الثالث حين تتحول كورليوني من مجرد مافيا إلى شركة عقارات وتجارة رأسمالية لم تتخل عن العمل المافيوي.
أي كتابة عن الفيلم ستكون غالباً قاصرة، (هل نستطيع مثلاً تجنّب حقيقة أن المُشاهد يخرج من الفيلم معجباً، جداً، برجل مافيا وقاتل؟!) فالساعات التسع من طول الفيلم بأجزائه، وازدحامها بما يمكن الحديث عنه من عناصر للفيلم الممتاز، ستعيق أي مراجعة نقدية وإن سريعة، للفيلم، فتكتفي بالمرور عليها والإشارة لأهميته كمنتج ثقافي وسينمائي.
سُمّي الفيلم في 2007 كثاني أعظم فيلم في السينما الأمريكية من قبل «معهد الفيلم الأمريكي»، وذلك بعد فيلم «المواطن كين» لأورسون ويلز. نال كل من الجزأين الأول والثاني العديد من الجوائز والأوسكارات، منها أوسكار أفضل فيلم، لكل منهما.
(القدس العربي)