‘الآنسة سلون’ بطلة تهدم المعبد على المؤسسة الأميركية السائدة
أمير العمري
من الظواهر البارزة في المشهد السياسي الأميركي وجود جماعات الضغط التي تعرف بـ”اللوبيات” Lobbies والتي تلعب دورا واضحا في تشكيل الحياة السياسية من خلال ممارسة الضغوط على أعضاء الكونغرس الأميركي في واشنطن، وهي جماعات تمارس عملها بشكل قانوني وبموجب تشريعات محددة يتعين عليها الالتزام بها، وإلاّ اعتبرت أنها تخالف قواعد “اللعبة”.
كانت “هوليوود الليبرالية” دائما تميل إلى ابتكار بطل خارق يتصدى للمؤسسة السياسية السائدة ويتحداها لكي يكشف أولا فسادها، ثم يتعرض لمحاولات تشويه من جانب السلطة إلى أن يتم عقابه بطريقة ما، قد تكون فقدانه منصبه أو تشويه سمعته واتهامه في قضايا ملفقة ويصل الأمر حدّ القتل أحيانا.
ولا شك أن هذه المادة تغري صناع الأفلام كونها توفر أرضية درامية مثيرة، تكفل صنع فيلم من النوع الذي يطلق عليه “ثريللر”، سواء كان مبنيا على شخصية حقيقية أو متخيلة.
كان هذا على سبيل المثال طابع فيلم “الحقيقة” Truth الذي يقدم دراسة لشخصية الصحافية “ماري”، منتجة البرامج السياسية المثيرة للجدل في قناة “سي بي إس” CBS، والمأزق الذي قادها إليه طموحها من أجل العثور على الحقيقة، فهي التي بحثت بمعاونة فريق متكامل في قسم الأخبار، في السجل العسكري للرئيس بوش الابن، وحصلت على وثائق تثبت تهربه من الخدمة العسكرية في فيتنام بفضل علاقات والده بدوائر السلطة.
في بداية الفيلم تجلس ماري أمام محام يساعدها في مواجهة المأزق الذي وقعت فيه بعد بث الحلقة التي توجه فيها أصابع الاتهام إلى الرئيس جورج دبليو بوش، وهي تسأل المحامي “هل تصدقني؟”، فيجيبها “ليس مهما أن أصدقك أنا.. المهم أن يصدقوك هم”.
وقرب النهاية، بعد أن تخوض معركتها ضد “المؤسسة” بكل قوة، حتى لو فقدت وظيفتها، رافضة الالتزام بما نصحها به المحامي بضرورة تجنب المواجهة مع أعضاء لجنة التحقيق التي شكلتها “سي بي إس” ومعظمهم من المحافظين، يصافحها المحامي بتقدير كبير لدفاعها الحار عن قضيتها أمام اللجنة، ثم يقول لها “إنني أصدقك، لقد تمسكت بالحقيقة حتى النهاية حتى لو كان الثمن أن تفقدي وظيفتك”.
وعلى نفس النحو، يبدأ الفيلم الأميركي الجديد “الآنسة سلون” Miss Sloane للمخرج جون مادن، ببطلته “إليزابيث سلون” جالسة أمام محام يقوم بتدريبها على التعامل مع الأسئلة التي يتوقع أن تتعرض لها خلال استجوابها أمام لجنة القيم في الكونغرس التي تسعى لإثبات أنها خالفت القواعد في قيادتها للوبي الذي تمثله، فالآنسة سلون مديرة حملات دعائية أو إحدى جماعات الضغط في واشنطن، وهي ذات عقلية فذة، تحتفظ بالكثير من المعلومات عن نقاط الضعف لدى جميع السياسيين، وتتمتع بشخصية قوية وكاريزما خاصة، تتحدث بسرعة، وتسير وهي تدق الأرض في ثقة، تقود بسيطرة كاملة فريقا من المساعدين الشباب، ورغم جاذبيتها فهي تعيش بمفردها.
إليزابيث سلون التي تجاوزت الأربعين من عمرها، ليست سيدة مبادئ، بل هي ترفض أصلا فكرة الالتزام بأي مبدأ، فهي “محترفة”، أي تعمل لكي تربح المعارك التي تخوضها لحساب الآخرين، لا تعترف أصلا بالفشل، وهي على استعداد لأن تفعل أي شيء من أجل الفوز مهما تعارض مع القيم والأخلاقيات والمبادئ.
سلون تعمل لحساب شركة من الشركات المتخصصة في ممارسة الضغوط لحساب الحزب الجمهوري، وعندما يطلب منها رئيسها قيادة حملة تعارض مشروع إدخال تعديلات تفرض قيودا على اقتناء الأسلحة من قبل الأفراد في الولايات المتحدة، تضحك ساخرة من الفكرة، وترفض تماما المشاركة في حملة من هذا النوع، وربما لا يكون موقفها مستندا إلى المبادئ، ولكن لأنها تعرف أن القضية مثيرة للسخرية، وغالبا أيضا، خاسرة رغم قوة “اللوبي” المؤيد لشركات السلاح.
لقد بلغت سلون مستوى جعلها تشعر بأنها أقوى من الشركة، بل ومن المؤسسة نفسها، لقد تملكتها فكرة أنها تستطيع أن تفعل ما تشاء، وأن تقرر أيضا للآخرين ما يفعلونه حتى لو أدت بهم إلى الموت أو الفضيحة، إنها تنضم إلى شركة منافسة تعمل لصالح الديمقراطيين لتقود حملة دعم التشريعات الجديدة مع أفراد فريقها الذين انضموا إليها باستثناء مساعدتها الشابة “جين”.
ليس للآنسة سلون حياة خاصة، فهي لم تتزوج، ليس لديها صديق، تقيم معظم الوقت في غرفة بفندق، لا تمتلك سيارة، تتعاطى بعض المهدئات لكي تساعدها على النوم فعقلها المشتعل دوما يحول دون ذلك، إنها أيضا تستأجر “رجلا محترفا” تمارس معه الجنس مقابل أجر معلوم، لكي يمنحها اللذة المؤقتة دون أن تتورط في أي مشاعر أو علاقات، إننا أمام دراسة لشخصية امرأة من الواضح أنها كما سيقول لها رئيسها في الشركة في ما بعد “لم تعش طفولة عادية” بل هي مجرد “قطعة من العمل”.. استبدت بها فكرة الفوز بأي ثمن.
مغالاة
هذا المسار قد يكون مقبولا ومقنعا لو انتهت المواجهة بين سلون والمؤسسة، بفضح أساليب سلون ثم كسرها كما يحدث لكل من يعلن التمرد الفردي على المؤسسة القائمة التي تتمتع بالقدرة على سحق معارضيها، خاصة أنها ارتكبت الكثير من المخالفات التي لا يجدي معها تمسكها -طبقا للمادة الخامسة في الدستور- بالحق في عدم الإجابة عما يوجه إليها من أسئلة من جانب عضو الكونغرس الذي يرأس لجنة الاستماع بعد أن نجح “اللوبي” المنافس في تصعيد الشكوى ضدها لكسرها، إثر عثوره على وثائق يمكن أن تدينها بمخالفة قواعد عمل اللوبيات، ولجوئها إلى وسائل تتنافى مع القانون وتشكل اعتداء على الحياة الخاصة للأفراد.
ومع ذلك، ما يحدث أن سلون لا تحقق فقط الفوز على دعاة فرض أي قيود على حمل السلاح، بل وتتمكن أيضا من فضح السيناتور الذي يقوم بالتحقيق معها، وتدميره معنويا وإنهاء علاقته بالسياسة، وبالتالي فضح المؤسسة السياسية الأميركية بأسرها.
هنا تكون الحبكة التي وضعها كاتب السيناريو جوناثان بيريرا -في أول سيناريو سينمائي يكتبه لهوليوود- قد أصبحت أكثر مما يمكن قبوله أو الاقتناع به، فها هي المرأة التي نعرف من البداية أنها بلا مبادئ، وأنها لا تقيم وزنا للآخرين، ولا تحمل أي انتماء سياسي أو موقف اجتماعي (تقدمي) بالضرورة، تصبح فجأة، مدافعة شرسة عن تقييد حمل السلاح بسبب ما يرتكب من جرائم سنويا يروح ضحيتها الأبرياء، حسبما تقول، كما تتصدى لفضح فساد النظام السياسي وكأنها أصبحت مناضلة تقدمية تقود حركة سياسية معارضة، على نحو يذكرنا بما وقع لضابط المخابرات المركزية “روبرت ريدفورد” في فيلم “ثلاثة أيام للكوندور” (1975).
أسلوب غير خطي
رغم عيوب السيناريو ينجح المخرج البريطاني جون مادن في الاستناد إلى أسلوب في السرد يقوم على الانتقال بين الماضي والحاضر، فهو يبدأ بالحاضر، أي من لجنة الاستماع في الكونغرس، ليعود إلى سلون وما تقوم به، ثم يظل ينتقل بين الزمنين إلى أن يصل قرب النهاية إلى الكشف عن أسرار الحبكة وما يكمن فيها من أشياء لم تكن واضحة للمشاهد خلال الفيلم، لكنها ظلت تثير شهيته وتشوقه للمزيد من المعرفة والفهم عن طريق تجميع المشاهد المتفرقة داخل نسيج الفيلم معا، ودفع المشاهد للوصول إلى استنتاجاته بنفسه. غير أن أي متفرج لا بد سيدرك مبكرا أنه أمام شخصية رئيسية ستصبح رغم كل سلبياتها، بطلة تهدم المعبد على رؤوس الجميع بما في ذلك رأسها أيضا.
وكما ينتهي فيلم “الحقيقة” باللقاء بين المحامي وموكلته بعد أن فقدت وظيفتها لكي يعترف لها بالصدق، ينتهي “الآنسة سلون” بالمحامي يلتقي موكلته التي تقبع الآن في السجن، لكي يعترف لها بالذكاء والحنكة.
ولا شك أن من أهم عناصر التميز في الفيلم الأداء المبهر من جانب الممثلة جيسيكا شاستين، بقدرتها على التماهي مع الدور، والتقمص التام للشخصية، والعيش داخل جلدها، والتعبير عن توترها وحركاتها السريعة، ونظراتها التي تعكس نوعا من الهوس الخاص، وفي الوقت نفسه لا تخفي شعورها بالوحدة. تتمتع جيسيكا شاستين بالجاذبية مع قوة الشخصية، والقدرة على التعبير بصوتها بطريقة ساخرة، وهي تهيمن على معظم مشاهد الفيلم، حتى عندما تصبح محاصرة بالاتهامات، لتكشف أنها لم تكن تلهو عندما تركت وراءها مساعدتها الشابة “جين” في الشركة التي تركتها!
رغم الرسالة السياسية المعروفة مسبقا والتي تكررت بطابعها الليبرالي في الكثير من أفلام هوليوود منذ السبعينات من القرن الماضي، ورغم الحوارات الطويلة المرهقة، سيجد المشاهد الكثير من الإثارة والتشويق، والمشاهد المتقنة الإخراج، والحركة التي لا تهدأ، والانتقالات السريعة بين المشاهد مع المحافظة على إيقاع الممثلين وضبط دخولهم وخروجهم من الصورة، مع نجاح المخرج في إضفاء أجواء من الغموض، بشكل خاص في المشاهد الداخلية، واستخدامه البارع للقطات القريبة (كلوز أب) للتعبير عما يدور داخل رؤوس الشخصيات، وتُحسب للمخرج أيضا اختياراته الموفقة لفريق الممثلين في أدوارهم المساعدة والثانوية.
هل ننصح بمشاهدة الفيلم؟ نعم بالتأكيد، ولو كان هناك عامل واحد يدعو إلى مشاهدته، فذلك هو أداء جيسيكا شاستين في دور “مس سلون”، وهو في اعتقادي يكفي.
(العرب)