‘مونتريال البيضاء’ حكايات المهاجرين لا يعرفها إلا المهاجرون
أيهم سلمان
يفتتح المخرج الكندي الجزائري بشير بن صادق فيلمه الروائي الطويل “مونتريال البيضاء” بالنغم الشرقي لفرقة مغاربية تضبط إيقاع الفيلم الذي تدور أحداثه في مونتريال الكندية، حيث يتجول سائق التاكسي الجزائري الأصل بسيارته في إحدى ليالي رمضان التي تصادف أيضا ليلة عيد ميلاد السيد المسيح.
وبعد غفوة أخّرته عن موعد الإفطار داخل سيارته وعكره خلالها كابوسه الذي يلازمه، يكمل جولته مع زبون يرتدي زي “سانتا كلوز” ليصادفا سيدة قرر الشرطي حجز سيارتها بسبب انتهاء صلاحية رخصة القيادة، ويقترح الزبون مساعدة السيدة وإيصالها إلى حيث تريد، لتدرك زوجها قبل أن يغادر مصطحبا طفلتهما إلى مكان بعيد.
وجه هذه السيدة مألوف بالنسبة للسائق، لكنه لم يتعرف عليها بعد، فقط عرف من ملامحها ولكنتها أنها تشاركه ذات الأصول، لكنه سيعرف لاحقا أنها “كاهنة”، المطربة الشعبية المعروفة في الجزائر والتي مازال يحتفظ لها بأسطوانة في سيارته.
تدور الحكاية إذًا حول شخصين من أصل جزائري جمعتهما مونتريال بالصدفة، ولكن لم يكن اختيارهما من قبل كاتب ومخرج الفيلم عرضيا بالتأكيد، فليست صدفة أن تركز أفلام المخرجين من أصول عربية على قصص متعلقة بالمهاجرين، ومنهم رشيد بوشارب صاحب فيلمي “أيام المجد” و”خارجون عن القانون”، اللذين يتحدثان عن المهاجرين الجزائريين في فرنسا، ولكن في فترتين مختلفتين، فكانت غالبية أفلام المخرجين المهاجرين تتحدث عن المهاجرين أنفسهم، وربما يوحي هذا بأنهم لم يتجاوزوا بعد مرحلة “المهاجر” ولم تصبغهم الأوطان الجديدة بعد بثقافتها.
وينطلق كل من سائق التاكسي والمغنية الشعبية السابقة إلى منزل الزوج ومن ثم إلى محطة القطار، لربما تدرك ابنتها قبل أن تغادر بعيدا، لكنها تصل متأخرة كذلك، هنا تجد الأم نفسها عاجزة عن الوصول إليها فالأب لا يحمل هاتفا جوالا.
وتسعى بكل الطرق للوصول إليها بمساعدة سائق التاكسي ذاته الذي يملك بعض مفاتيح التواصل الخاصة في أوساط المهاجرين، هذه الجولة تسبب القلق لكاهنة التي تحاول دائما الابتعاد عن هذه الأوساط في محاولة لتغييب أي شيء يتعلق بماضيها، حتى أنها لا تتحمل سماع إحدى أغانيها القديمة في مطعم جزائري، فتجهش بالبكاء لدى سماع مطلع أغنيتها.
ليس الحنين هنا إنما حصار الماضي، أرادت تصديق ما أشيع عنها قبل سنوات، بأنها قضت على أيدي بعض المتشددين في الجزائر، حالها حال بعض المغنين الجزائريين المعروفين. أما سائق التاكسي “أمقران” الذي وجد نفسه متورطا في قصتها، فكان يحاول الهرب هو الآخر من ذاكرته المؤلمة التي حملها معه من بلده الأم، هناك حيث تسبب في مقتل أفراد عائلته على أيدي المتشددين ذاتهم، بسبب ارتدائه البزة العسكرية للجيش الجزائري.
وبعد بحث مضن سرق ليلة عيد الميلاد بأكملها وصلت كاهنة إلى ابنتها وزوجها صباح اليوم التالي، وعاد أمقران هو الآخر إلى المنزل، حيث زوجته وأطفاله لتنتهي هنا قصّة الحاضر القصيرة، أما قصة الماضي، فلا يمكن محوها من ذاكرة أي منهما.
ويقول بشير بن صادق “لا ندعو في الفيلم إلى الاستسلام للماضي، فالاستسلام يكون لشيء سيحدث، لا لشيء حدث بالفعل، ولكن الحياة تستمر، والماضي جزء منها، وتجاوز الماضي لا يعني نسيانه بالتأكيد، في الحقيقة تناولنا لهذه القصص كان هدفه التعرية عن نموذجين مختلفين، إغناءً لتصور البعض عن جيرانهم الذين يحملون ثقافة قد تكون مختلفة؛ بمعنى اعرف من هو جارك”.
وفيلم “مونتريال البيضاء” من بطولة رباح آيت أويحيى وكاتيا أكتوف، وقد جاء عرضه الأول في مهرجان روتردام الدولي في هولندا، وعرض مؤخرا في مهرجان موعد مع السينما الكيبكية في كندا، بالإضافة إلى عروض خاصة ما بين المهرجانين في الجزائر وبلدان عربية أخرى.
(العرب)