جوسبي إنجارتي .. أشياء قادمة ليس من الضروري معرفتها الآن

قيس مجيد المولى
لعلَ من أبرز سمات الشعر الإيطالي ضمن الحقبة التي كانت الحرب العالمية الأولى 1914 أصرتها، تأثير هذه الحرب بشكلها المباشر على الشعراء الذين كانوا ضمن كوارثها ومأسيها، لذلك كان جل شعرهم ينطلق من تلك المعاناة الهائلة، إذ وجدوا أن هذه المعاناة لا بد من الوصول إليها وإيصالها من خلال لغة مباشرة تتسم بالخطابية الثورية.

اللغة التي يتم بها تسخير تلك القوى البشرية لإدامة الحرب وأحراز النصر لأنها طيعة ومحفزة أينما يكون ابن إيطاليا، وبدون موجهات أخرى ما دام هدف الحرب معلوما ونتائجها تقع ضمن ذلك القهر الإنساني لذات المتحاربين والذي يعني الخيار بين الحياة أو الموت.

كان همّ الشعر في تلك المرحلة أن يعبر عن مفهوم الإنتصار أو الهزيمة، ولكن الحرب لم تكن حرب أيام وشهور، بل أن سنيها الطويلة غيرت في المفاهيم السائدة والمقبولة قبل اندلاعها وأثنائه, وهذا الرأي كان على مستوى عامة الشعوب المبتلى بها لتتبلور الخصوصية الجمعية في اللامعنى الذي تسير الحرب بخطواتها إليه.

ولسنا هنا بصدد الحديث عن المتغيرات الإجتماعية مادامت إفرازات الحرب تتصاعد وتتسيد الدكتاتورية القرارات وتخطط الرأسمالية للإفادة من نتائج الحرب وتطويع إقتصاد البلدان وجعلها تحت نفوذ وسيطرة الدول التي تخرج منتصرة منها لرسم حدود جديدة لعالم آخر غير الذي كان قبل الحرب.

ولاشك أن تجربة الشعر الإيطالي ولو صح تسميته بشعر الحرب العالمية الأولى هو الآخر وقع تحت تأثير هذا الملل الذي أفرزته الحرب حيث كان لا بد من الإنقلاب على الذات وعلى مطالبها ومواقفها، وبالتالي فهو انقلاب الشعراء على موجوداتهم التي التصقوا بها خلال السنتين الأولييين منها ليجدوا أنفسهم بحاجة للتعبير عن شيء جديد ينبع من لغة جديدة.

ويمكن قياس هذا التحول أي مغادرة الأسلوبية الخطابية والتعظيم والتمجيد وكمثال ونموذج الشاعر جوسيبي إنجارتي.

لقد ولد إنجارتي في مدينة الإسكندرية وأتم علومه في باريس وعاد إلى إيطاليا بعد فراق مؤقت لها، وحاله حال العديد من شعراء إيطاليا، فقد اشترك في الحرب العالمية الأولى، وكما أسلفنا فقد كانت تأثيرات الحرب واضحة المعالم في شعره حيث يُقرأ في شعره لتلك المرحلة ما يدل على اعتناق فكرة البطل وفكرة الموروث الأسطوري وفكرة الزعامة والقتال حد الموت وفكرة وجود معجزه إلهية لنيل النصر.

وهذا الإدمان في تلك الوسائل الشعرية كان رائدا ومقبولا في مرحلة الحرب الأولية لإيمان المقاتل بحدوث كل شيء في أي فترة، أي حدوث غير المتوقع إنسجاما مع الفهم الخاص لفصل الحق من الباطل والقناعة بأحقية انتصار هذا الوطن (إيطاليا) على كل الأوطان، وكذلك القناعة في التصريف الإعلامي لها لإدامتها كونها الخيار الوحيد لتعزيز الشخصية الوطنية الإيطالية.

لكن هذا الإدراك أو بالأحرى هذا الإنسجام مع هذه المفاهيم سرعان ما تحللت خيوطه، وتحت ضغط الحرب يحدث الإدراك الواعي لسفاهة تلك المفردات التي كانت تروج من الساسة والشعراء.

إذا ذاك وجد الشعراء وتحديدا أنجارتي – والذي نحن الآن بصدده – أن تلك المفردات البطولية لم تعد لها أذان صاغية، فالناس لا تريد النصر على حساب تدمير بلد ومصرع أبنائه، لقد حدثت نقطة التحول تلك عبر الإنطلاق الى مجاهل الذات لتمجيدها، والأدهى أن هذا التحول وهذا التمجيد يتم عبر الجمل الشعرية القصيرة خالية من شكل البناء الشعري القديم متناسية بالقصد الحرب ومخلفاتها رغم أنها لم تنته بعد.

إن تأمل إنجارتي الشعري كان متوجها الى الغموض والى التنبيه الى اللغز وإلى أشياء يقول عنها إنها قادمة ليس من الضروري معرفتها الآن، كان يتهيأ لنشر السحر ورشه في أوجه الناس لتتطلع برخاوة وبتجاهل في مرايا غير مرايا الحرب، كانت المفأجأة أن يكتب عن (الساعة التي تفصل النور الأول عن الرعشة الأخيرة).

وبـــ (أصابع زمردية ينسج المطر الغامض ثوبا) كان يريد أن يجد نفسه في لغة مركزة، في الصور والإستعارات، في إشارات غير مفهومة لذلك غمس لغته كليا في ذلك الإغراق المعبر عما يرمي إليه في موضوعاته من (السلحفاة التي في حداد .. الى آه يا وطني .. كل فصولك فوق بحر جشع).

لقد أضيفت سيرة إنجارتي إلى قائمة الشعراء الإيطاليين الذين تأثروا بالشعر الفرنسي ولم يكن هذا التأثر بالمعيب بل هو التأثر الطبيعي لأنه غير المتداخل أو المقتبس رغم عظمة المنجز لــ (مالارميه وأبو لينير).

لقد ترجم شعر أنجارتي الى الفرنسية وجله ترجم الى الألمانية وتعرفوا عليه قراء دول الحداثة الشعرية من خلال تركته: البهجة 1931، عاطفة الزمن 1933، الألم 1947.

في عام 1970 توفي أنجارتي في الولايات المتحدة الأميركية، وكان قد ترجم (سان جون بيرس) الى الإيطالية، ويقينا أن شعره قد انسجم من حيث اللغة والبناء بما كان سائدا في ثورة الشعر الأولى التي نسفت الأسلوب القديم وفتحت باب الشعر الجديد للترحيب بالقادمين.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى