إيزابيل أليندي… (إبنة حظ) وحكاية أمريكا اللاتينية
محمد محمد الخطابي
قدّمت الروائية التشيلية إيزابيل أليندي مؤخرا كتابها الثاني من روايتها «ابنة الحظ». تعالج الرواية قصة مواطنة من تشيلي (إلزا سوميرز) التي تعيش في (فالباراييْسو) عام 1849 وهو العام الذي اكتشف فيه الذهب في كاليفورنيا، يهاجر خليلها خواكين أندييتا إلى شمال القارة بحثا عن الكنز الموعود، وتقرر (إلزا) أن تذهب وراءه في رحلة جهنمية، متخفية في مركب شراعي بحثا عن خطيبها، في أرضٍ لا يؤمها سوى الرجال، وبعض المومسات اللائي حضرن إلى هذه المنطقة القاحلة في خضم حمى البحث عن الذهب والثروة. ستعمل الظروف القاسية التي ستواجهها، وتعيشها على تحويل هذه الشابة البريئة إلى امرأة غير عادية صعبة المراس، سيساعدها طبيب صيني يدعى (تاو شين) في رحلة لا تنسى من خلال مغامرات وأسرار وتناقضات الحياة.
سيرة الجد الباقية
غالبا ما تبدأ إيزابيل أليندي كتابة رواياتها في تاريخ الثامن من شهر يناير/كانون الثاني، وعندما سئلت عن سر ذلك قالت: «في 8 يناير 1981 علمت أن جدي يحتضر فبدأت أكتب رسالة، هذه الرسالة سرعان ما تحولت إلى «بيت الأرواح» وقبل ذلك ظل مقتل سلفادور أليندي عام 1973 عالقا في ذهنها، وصورة بارزة في عالم إبداعاتها الروائية وكتاباتها على العموم، وبعد النجاحات التي حققتها في عالم الإبداع الروائي أشيع في تشيلي، احتمال نوبل ثالث لهذا البلد بعد مواطنتها الشاعرة غابرييلا ميسترال (وهي أول امرأة تحصل على نوبل في الآداب في أمريكا اللاتينية عام 1945) والشاعر بابلو نيرودا» الذي فاز بالتكريم العالمي نفسه عام 1971، إلا أنها علقت على ذلك مبتسمة حينها وقالت : «إن ذلك ما زال بعيدا، فأنا ما زلت في منتصف الطريق».
عن أمريكا الأخرى
وفى رواية «قصص حواء قمر» (1984) تحكي لنا قصة امرأة تتحدر من أبناء القمر، وهي قبيلة من قبائل السكان الأصليين من هنود أمريكا اللاتينية الذين عانوا شراسة وضراوة المستعمر الغازي، وأبرزت في هذه الرواية عذابات ومعاناة شعب يقف في صراع دائم حول كيانه ووجوده وهويته، وتاريخه وتقاليده وموروثاته. وفي كتابها «خطة غير متناهية» (1992) يتفجر مدى الطموح الذي يعتمل في نفس هذه الأديبة، ويحكي الكتاب قصة غريغوري رايفيز وهو أمريكي أبيض نشأ في الحي المكسيكي في لوس أنجليس في كاليفورنيا، وتغطي القصة مرحلة زمنية تمتد من الحرب العالمية الثانية إلى بداية الثمانينيات، وليس في نية الرواية كما يبدو للقارئ من أول وهلة تقديم «شهادة عصر»، بل إن تحكي ببساطة قصة ذات دوافع ونوازع وظواهر اجتماعية، حيث نلتقي مع شخصيات مثل «غريغوري رايفيز» ووالده «شارل رايفيز»، ومع «أولغا» وهي مهاجرة و«كامن موراليس» وعائلتها المكسيكية، وكلها شخصيات تعيش نوعا من الذوبان في المجتمع الأمريكي، حيث يعيش المرء حسب تقاليده، مشدودا إلى ماضيه، إلا أنه في الوقت ذاته يتوق إلى تحقيق اندماج كلي أو على الأقل جزئي في هذا المجتمع، وإن لم يتحقق ذلك معه، فعلى الأقل مع أولاده، يتم القص في هذه الرواية على لسان الغائب مع إدخال نوع من المونولوج على طريقة «منزل الأرواح»، ما يجعل القارئ مشدودا إلى هذه الرواية، وهو أول عمل روائي تعالج فيه الكاتبة وسطا غير أمريكي لاتيني، أي غير وسطها التقليدي المعتاد. ويبدو الجانب السحري في الرواية في النشاط الذي يقوم به «شارل رايفيز» كداعية بهائي، و»أولغا» كساحرة، وبالجملة تصبح هذه الرواية بحثا عن الهوية الأمريكية اللاتينية في الولايات المتحدة الأمريكية، كما تجسم الرواية أو تعكس تصادما وتطاحنا بين الثقافة الأمريكية اللاتينية في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم اللاتيني، وهي أيضا سياحة أو رحلة إلى عالم الجحيم الشخصي لرجل يجد خلاصه، وملاذه وعزاءه في الحب، وهو آخر ما يمكن أن ينتشله المرء من معمعة الحياة وأتونها.
أليندي وماركيز
عندما ظهرت أول رواية للكاتبة أليندي عام 1982 ذات الوجه الشاحب، والاسم الذي يرن بالمأساة، انهال عليها النقد تقريظا وقدحا في آنٍ، والغريب أن هذه الصحافية والأديبة، حققت نجاحا لم يكن متوقعا، ولم يكن في الحسبان، وانطلق الجدل حول باكورة أعمالها الروائية التي تحمل عنوان «بيت الأرواح»، حيث حققت بهذا العمل الروائي بين ليلة وضحاها أوسع انتشار، وثار بعد ذلك نقاش واسع آخر حول اللغة الواقعية السحرية الصقيلة التي استعملتها هذه الكاتبة الأمريكية اللاتينية في هذه الرواية، دون أن تصل آنذاك إلى مستوى الكتاب الكبار المشهود لهم بهذا الجانب الإبداعي في أمريكا اللاتينية، وعلى رأسهم القاص المكسيكي الراحل خوان رولفو، كما غالى بعض النقاد في اتهامها بمحاولة (استنساخ) رواية الكاتب الكولومبي غارسيا ماركيز الشهيرة «مئة عام من العزلة». تقول أليندي عن ماركيز «كان كل كتاب له يحصل على شهرة وشعبية لا حدود لهما، لذلك، يمكن القول إنه استحوذ على قلوب العديد من القراء، وانتشرت كتبه في جميع أرجاء العالم، لقد تحدث غارسيا ماركيز للعالم أجمع عن قارتنا، عن أمريكا اللاتينية، وجعلنا نتعرف على أنفسنا، وفي صفحات كتبه ورواياته كنا نرى أنفسنا وكأننا ننظر في مرآة». وتقول عن (مئة عام من العزلة) «عندما بدأت في قراءة هذه الرواية، امتنعت عن الذهاب إلى العمل، بل مكثت في البيت أقرأها حتى انتهيت منها. كان كما لو أنه يروي لي قصتي الشخصية. إذ اكتشفت أن عائلتي كانت موجودة في الكتاب، وكان هناك بلدي والناس الذين أعرفهم، بل حتى جدتي كانت موجودة في الكتاب، فقد نشأت أنا أيضا في بيت جدي وجدتي مثله، كان هناك كثير من أوجه الشبه بيننا».
وتشير الناقدة المكسيكية بياتريس مايير إلى (بيت الأرواح): «من ميزات هذه الرواية عرضها وسردها الإخباري العائلي المتواتر، وتجسيدها للحقيقة انطلاقا من الواقع والغضب والحنق والسخط المتفجر فيها، حيال انهيار وتهدم عالم مميز، متعة السرد التي تكاد تكون طفولية، كل هذا جعل عددا غير قليل من النقاد يطلقون على إيزابيل أليندي اسم «غارسيا ماركيز بتنورة أو بجونيلة»، بل إنهم أصبحوا يقارنونها بعدد من الروائيين الآخرين، الذين يقال عنهم كذلك خرجوا من معطف ماركيز.
أليندي ونيرودا
وتقول أليندي عن لقائها كصحافية مع الشاعر بابلو نيرودا قبل أيام قليلة من رحيله: «كان بابلو نيرودا، الأديب التشيلي الثاني الذي فاز بجائزة نوبل للآداب في بلدها بعد الشاعرة التشيلية غابرييلا ميسترال. كان ذا شهرة واسعة في جميع أنحاء العالم، وترجم شعره إلى مختلف لغات الأرض. وعندما داهمه المرض، عاد إلى بلده تشيلي، وبالضبط إلى مقر إقامته في الجزيرة السوداء، لأنه كان يريد أن يموت ويدفن في منزله، حيث يوجد قبره في الوقت الراهن، قبل الانقلاب العسكري عام 1973 بفترة وجيزة، زرته في منزله، تناولنا الغداء ثم قلت له: «هل يمكنني أن أجري معك المقابلة الآن، لأن الوقت قد تأخر، وعليّ أن أعود الى سانتياغو؟» فقال: أية مقابلة؟ فقلت له: لقد جئت لمقابلتك. عندئذٍ قال لي: على كل حال. فأنا لن أجعلك تجرين مقابلة معي. لأنك أسوأ صحافية في هذا البلد. أنت تكذبين طوال الوقت. ولا يمكنك أن تقولي الحقيقة. ولم تكوني أبدا موضوعية. وأنا متأكد من أنه إذا لم تكن لديك قصة، فأنت تختلقينها، لماذا لا تتحولين إلى كتابة الأدب، حيث تعتبر كل هذه المساوئ من المحاسن؟ إنني أنصحكٍ بذلك، ومنذ ذلك اليوم قررت أن ألج عالم الأدب والكتابة واختلاق القصص.
أليندي وغاليانو
تعرّفت أليندي على صاحب «شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة» الكاتب الأروغوائي الراحل إدواردو غاليانو، فتقول: غاليانو يمكن له أن يقص عليك ما لا نهاية له من القصص والحكايات بدون انقطاع، وبكل سهولة وسلاسة ويسر، وذات مرة تقطعت بنا السبل في أحد الشواطئ في جزيرة كوبا ولم نعثر على وسائل النقل للعودة من حيث أتينا. وهكذا لعدة أيام استمتعت كثيرا وبلا حساب بالإصغاء لقصص فريدة، وحكايات مذهلة، فهو يتمتع بموهبة خارقة في رواية القصص، الشيء الذي جعل مؤلفه «شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة» كتابا عظيما يتميز بأسلوب جذاب، وكأنه قصة من قصص، أو حكاية من حكايات، أو مغامرات القراصنة المشوقة… هناك قصة له أحببتها كثيرا، جاء فيها: «كان هناك رجل عجوز يعيش بمفرده، وكانت تحاك حوله إشاعات مفادها أنه يخفي كنزا باهظا في منزله، وذات يوم دخل اللصوص إلى بيته خفية، وصاروا ينقبون في كل مكان عن الكنز، وعثروا على خزانة بقبو سكناه، فأخذوها معهم، وعندما فتحوها وجدوها ملأى برسائل الحب، وكاد اللصوص أن يضرموا النيران في تلك الرسائل، إلا أنهم قرروا في ما بعد إعادتها إلى صاحبها، فصاروا يبعثون بها إليه واحدة، واحدة، كان العجوز يترقب بفارغ الصبر وصول ساعي البريد إلى منزله، وهو يحمل إليه رسالة جديدة في يده، وفي كل مرة كان يشعر بسعادة عارمة لا حدود لها لتلقيه رسالة جديدة من تلك المرأة».
(القدس العربي)