أعطبت الحرب لوحاته ومرسمه: التشكيلي اليمني طلال النجار: الخراب طاول إحساسي وروحي ولم أستسلم
أحمد الأغبري
هنا يروي التشكيلي اليمني طلال النجار لـ«القدس العربي» ما أحدثته الحرب في روحه ووجدانه وفي علاقته باللوحة. طلال، وهو اسم تشكيلي يمني له مكانته، اضطر للتفكير ملياً بعدم ممارسة الفن، وهو يشهد دخول وطنه في نفق الموت اليومي، ويعايش معه سقوط كثير من المعاني التي كانت تسند مشروعه الفني ومعها أحلامه بمستقبل جميل لوطن آمن؛ فشعر كأن كل ذلك قد تبخر على وقع أزيز رصاص الحرب في بلاده، التي تعيش مأساة ضاعف من تجاهل المجتمع الدولي لها، حتى يكاد العالم يتورط مع الجلادين أمام الضحايا في هذه الأرض المنسية الفقيرة من العالم.
منذ دخلت البلاد في متاهة الحرب بإرهاصاتها التي بدأت عام 2014 لم يتوقع الفنان طلال النجار أن تنزلق بلاده هذا المنزلق الذي لم تخرج منه حتى اليوم، خاصة بعد اشتغال الحرب المستمرة منذ آذار/ مارس 2015 فأصيب، وهو من أبرز تشكيليي الصف الثاني في المحترف التشكيلي اليمني، بخيبة أمل بوطن ينهار، وهو ما انعكس على تجربته؛ فهجر لوحته ومرسمه، ولم يعد يهتم بشيء، حتى أنه ترك معظم أعماله مع مرسمه، وغادر البلاد مع عائلته ليعود بعد عام إلى صنعاء، وقد تلف مرسمه وفيه معظم أعماله، بعضها يعود إلى سنوات طويلة، جراء تعرضها للشمس والأمطار.
أن يخسر الفنان كثيرا من أعماله، التي هي بالعشرات، فذلك سيظل جرحا نازفا في صدره، لكن عندما سألته عن شعوره وقد فقد كل تلك الأعمال أجاب بكلمات أكثر ايلاماً: لقد فقدنا وطنا بكامله.
لكن الفنان طلال النجار، وهو الحاصل على الماجستير في الرسم الزيتي في أكاديمية الفنون الجميلة في موسكو، عاد إلى صنعاء بعد رحلته الخارجية، خلال الحرب، وهو أكثر إيماناً بالفن، واستأنف علاقته باللوحة بإصرار الفنان المؤمن بسمو رسالة الفن، لكن كيف صارت علاقته باللوحة بعد هذه العودة؟ هنا نص الحوار:
■ لِمَ انقطعت عن اللوحة خلال هذه الحرب؟
□ بسبب كل ما واجهناه من بشاعات وانحطاط إنساني، فقدتُ إيماني بكل شيء بما فيه الفن، وفكرتُ فعلياً بعدم ممارسته، ﻻ أدري أكنتُ أعاقب الناس أم نفسي، لذلك كرهتُ كل ما يتعلق بالفن، بما فيها لوحاتي ومرسمي أيضاً..
■ وهل مازلت منقطعاً عن اللوحة حتى الآن؟
□ لقد حظيتُ بالسفر مع عائلتي إلى الأردن ومصر، وقضيت هناك مدة عام؛ فكان للحياة الطبيعية دور في أن أعيدُ التفكير بكل شيء، وأعيدُ بناء الأيقونات التي دُمرت في داخلي، وبناء تصورات جديدة للحياة والكون؛ فقررتُ العودة إلى الفن؛ لأني آمنت، من جديد، بأن الفن هو أرقى وأسمى نشاط إنساني لمواجهة كل هذا القبح واﻻنحطاط والقسوة والبشاعة التي أظهرها الإنسان العربي مؤخراً.
■ وكيف أصبحت علاقتك باللوحة بعد هذه العودة؟
□ بدأتُ فعلاً بالعودة إلى الرسم مباشرة بعد عودتي من القاهرة، أي قبل عام تقريباً، ومع أني أعمل يومياً إﻻ أني لم أستطع إنجاز أي لوحة… لقد اكتشفتُ أن الدمار في داخلي كان كبيراً، والخراب طال كل أحساسي وروحي، لكني لم استسلم وما زلت مستمراً في العمل وبإصرار كبير؛ ﻷن البديل، ببساطة، هو الموت.
■ وهل تختلف تجربتك مع هذه الحرب عن تجربتك مع ما عرف بحرب الانفصال في صيف 1994؟
□ تختلف كثيراً.
■ لكن هذه الحرب قد تطول يا صديقي لسنوات، ما يتطلب منك التسلّح بمزيدٍ من الإصرار على مواجهتها بمزيدٍ من الفن.
□ إننا كفنانين نعيش في اليمن ونمر باستمرار بحاﻻت انتكاسة، ولكننا نعاود الوقوف مجدداً، لكن ما حصل في 2014 كان قاسياً جداً، لقد دُمرت الدولة ودخلنا في حرب بشعة، لذلك شعرتُ بأن هذه الضربة كانت قاضية.
■ هناك تشكيليون واجهوا الحرب برسم الحرب والموت والتعبير عن مواقفهم من خلال الفرشاة؟
□ ليست لديّ مخططات لرسم الحرب، وﻻ أريد التعبير عنها بشكل مباشر، فيكفي ملايين الصور التي نراها كل يوم.
لقد كان لك مشروع فني اشتغلت من خلاله لسنوات طويلة على موضوع الهُوية، ما مصير هذا المشروع؟
– لقد توقف هذا المشروع وانقطعت حلقة سلسلته، ولكنني سأعود لمواصلته ﻻحقاً. إننى أحاول بكل جهدي.
■ ماذا عن مرسمك الحالي؟
□ لديّ غرفة صغيرة على سطوح المنزل حولتها إلى مرسم مؤقت.
■ ومصير لوحاتك السابقة؟
□ كثير منها تلفت بفعل الشمس والأمطار.
■ وما شعورك حيالها بعد تلفها؟
□ لقد كرهتها …وﻻ أطيق رؤيتها.
■ لماذا؟
□ لأنني كرهت حينها كل شيء.
■ كم عدد تلك اللوحات التي تلفت؟
□ ﻻ أدري كم بالضبط، لكنها بالعشرات، وكثير من اﻻسكتشات والرسومات التي كنت محتفظاً بها منذ أيام الدراسة في موسكو.
■ وهل مازالت اليوم تنظر لها بالشعور ذاته؟
□ عندما قمت بفرزها من أجل رميها للقمامة، تأسفت على بعض من اسكتشاتي التي احتفظت بها ﻷكثر من 30 عاماً؛ وهي رسومات سريعة لبعض الأصدقاء رسمتها أثناء الدراسة في موسكو. عدا ذلك لم أتألم على شيء، لقد فقدنا وطنا بكامله، فماذا يعني أن أفقد بعض اللوحات؟
ببيبلوغرافيا طلال النجار:
ولد عام 1963 في مدينة تعز/جنوب اليمن ويعيش حالياً في مدينة صنعاء. بدأت علاقته بالرسم منذ طفولته، ودرس الرسم على يد مُن يُعرف بأبي الفن التشكيلي اليمني الفنان الراحل هاشم علي عام 1973، وشارك في معرض مشترك مع هاشم علي وفنانون آخرون في تعز عام 1977. تواصلت مشاركاته في معارض مشتركه مع هاشم علي وفنانين آخرين خلال الفترة 1978-1983. في عام 1983 التحق بالدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة في موسكو، وتخرج فيها عام 1992 بدرجة الماجستير في الرسم الزيتي. في عام 1993 أسس صالة دمون للفنون في صنعاء. وفي عام 1995 كُلف بمرافقة معرض الفن التشكيلي اليمني المعاصر إلى باريس في مقر اليونسكو. في 2001 أسس مع الفنانين آمنة النصيري ومظهر نزار وريما قاسم جماعة الفن المعاصر، وشارك في تأسيس اتليه صنعاء عام 2003، كما شارك في معارض جماعية في فيينا وفرانكفورت وباريس والكويت ومسقط ونواكشوط والخرطوم والشارقة وبغداد وموسكو. نظم معرضه الشخصي الأول عام 2004 ومعرضه الثاني عام 2006 ومعرضه الثالث عام 2008.
تميزت تجربته بعلاقته المرتكزة على مشروع فني، وهو المشروع الذي تبلور واضحاً أوائل الألفية الراهنة، من خلال إنجاز لوحة ذات هوية يمنية عربية إسلامية إنسانية، مستمدة عناصرها من مفردات الهوية الفنية العربية الإسلامية؛ فانطلق بواقعيته وتجريديته في الاشتغال على مدينة صنعاء التي سكنها وانطلق في إعادة اكتشافها من خلال تصوير ملامحها الجمالية في أعمال واقعية تكرست كثيراً في الوجوه، بالاعتماد كثيراً على تقنية القلم الرصاص وبعضها بالفحم والألوان الزيتية والأكريلك وغيرها، وهو المشروع الذي امتد إلى أعماله التجريدية، سواء تلك المرتبطة بالمدينة القديمة في صنعاء أو غيرها، التي توجت لاحقاً في تجربته في الحروفيات واشتغاله فيها على الحروف بلونية نارية وضوئية ورؤية فكرية صوفية، ومثلت مرحلة جديدة في تجربته وعلاقته الفكرية واللونية باللوحة.
(القدس العربي)