المنطق الترابطي في «مجاز العشق» للروائي نبيل سليمان
زهور كرام
تُثير الرواية في الثقافة العربية الراهنة، اهتماما تتفاوت طبيعـــــته، بين النقدي الذي يسعى للبحث في طبيعة الرواية العربية، وإمكانـــــياتها الفنية والأسلوبية والجمالية، التي تجعل منها، مدخلا ثقافيا ممكنا، للانفتاح على قضايا وإشكالات سياسية واجتماعية، والسوسيوثقافي الذي ينشغل بسؤال البحث في سبب إقبال الكتاب العرب على كتابة الرواية، وارتفاع عدد الإصدارات، مع ارتفاع عدد الجوائز المهتمة بالرواية، والمقاربات الانطباعية، التي بدأت تُهيمن، خاصة مع المواقع الإلكترونية.
وإذا كان هذا الاهتمام ـ بكل مستوياته- يُساهم في ثقافة الاهتمام بموقع الرواية في المشهد الإبداعي، فإن مجموعة من الأعمال الروائية، تتطلب جُهدا معرفيا- نقديا مُضاعفا، من أجل الاقتراب من وضعيتها، لكونها أعمالا تنخرط في زمن روائي مختلفٍ وجديدٍ، ولهذا تفرض طرح أسئلة جديدة، مُختلفة عن الأسئلة السابقة، وتتجاوز أسئلة النشأة والتكون. نقديا، نقيس درجة تحقق التشخيص الأدبي في أي نص، بالقدرة على الانزياح عن الواقع ولغته، ثم الإبداع في الانزياح، مع التمكن من نقل القارئ – تدريجيا- من الواقع إلى الخيال، وجعله يُقيم في زمن الخيال، بدون دعمٍ مُباشرٍ من قبل المؤلفِ، أو إصرار حكائي، حين يكتفي المؤلف بالتركيز على القصة أكثر من بنائها، أو إلزام أيديولوجي، عن طريق الكتابة بمنطق الأطروحة. عندما نتحدث عن الزمن الإبداعي، الذي يُحقق مختلف درجات التشخيص، فإن الأمر يتعلق بمستوى مُعين من إبداعية المبدع، وصِدق إقامته في زمن الخيال، بعيدا عن افتعال الإقامة والتعبير بلغتها. تأسيسا على ذلك، فإن مختلف النظريات الروائية تنشغل بالتفكير المعرفي والفلسفي والتقني بمنطق تحقق الإقامة في زمن الخيال، من خلال خطاب الرواية، وطُرُقِ صوغ الحكاية. عندما تخرق أعمالٌ هذا التعاقد الروائي، وتقترح انزياحا مُختلفا عن قانون التشخيص المُتعاقد عليه روائيا، فإنها تأخذ الجنس الروائي إلى مساحات أوسع، وتجعله يختبر منطقه بانزياح عن الانزياح المألوف. تعتبر رواية «مجاز العشق» للروائي السوري نبيل سليمان من بين الأعمال الروائية، التي تُحقق هذا الانزياح، على عدة مستويات: نذكر نوعين اثنين: انزياح غير مألوف في منطق الكتابة الروائية، وانزياح لغوي- إبداعي.
كل مُقترب من «مجاز العشق» بدون سندٍ معرفي لمسار تطور التعبير الإبداعي، خاصة مع الثقافة الرقمية وفلسفة الاحتمال ومفهوم التفاعل في إنتاج الممكن، قد لا يُدرك طبيعة خطاب «مجاز العشق»، وقد تُبعده صدمة بناء النص عن قراءته. تلتقي «مجاز العشق» في فضائها النصي مع النص الرقمي «محطات» للكاتب المغربي محمد اشويكة. يلتقي النصان في منطق الكتابة بالترابطي. يأتيان معا عبارة عن موسوعة من العناوين. جاءت في «محطات» على شكل مفردات خارج نظام حكائي، ولكن وضعها الترابطي، يجعل منها نصا/ نصوصا محتملا، بوجود قارئ مُتفاعلٍ. أما في «مجاز العشق» فإن النص جاء عبارة عن مقاطع نصية، حاملة لعناوين. وهي وإن خضعت إلى ترتيب حكائي، من خلال بداية «كالمقدمات»، ثم المتون (49 عنوانا) فالخاتمة، فإن ورود المقدمات والمتون والخواتيم، في ارتباط بكاف التشبيه: كالمقدمات، كالمتون، كالخواتيم، يجعلها غير محسومة، ومنفتحة على التفاعل، مع الإشارة إلى كون «كالخواتيم» جاءت آخر الكتاب، بدون نص أو حكاية، ولكنها بياضٌ مفتوح أمام احتمالات التفاعل. تأتي عناوين المقاطع إذن، بطريقة لا تأكيدية، وإنما تُعرض بالكتابة على الكتابة باعتبارها فرضيات ليس إلا. وما يُدعم زمن الاحتمال، هو تبني أسلوب الكتابة على الكتابة، أو بتعبير آخر، لا تنطلق الرواية من ذاكرة سابقة، إنما «مجاز العشق» هي رواية في حالة التحقق، لكونها تبحث عن ذاكرة من رحم الكتابة، وتُشرك الشخصيات والقارئ في تشكيل هذه الذاكرة. ذاكرة حكاية مُحتملة، يتم تشكيلها من الآتي وليس السابق. كل مقطع يتوفر على موضوع وبناء، وبالتالي، كما يحدث مع نص «محطات» الرقمي، فإن البداية ممكنة مع أي نص، وعملية الانتقال من وإلى ممكنة، مادامت الرواية ككتابة غير مُؤكَدة، والبحث فيها ما يزال قائما. نلتقي بمفهوم اللعب من خلال منطق المتاهة الذي تنتجه طبيعة النص. لكنه لعبٌ مشروطٌ بإنتاج نص له أدبيتهُ التي تسمح بإدراجه داخل منطق نظرية الأدب. غير أن الأدبية هنا، تتعرض ـ بدورها- إلى نقاشٍ معرفي. في هذه الرواية يتم نسف التعاقدات البنائية للرواية، بدءا من علاقة الرواية بالحكاية. الحكاية/الخيال هي ذاكرة الرواية/التخييل، وقد تتحول الحكاية إلى واقع صرف، غير أن التخييل يُخرجها من الواقعي، ويُدرجها في الخيال. غير أن هذا القانون يتراجع في «مجاز العشق»، ومعه تتراجع الحكاية باعتبارها إما خيالا جاهزا للحكي، أو واقعا قابلا لأن يُصبح خيالا. الرواية تسبق الحكاية في «مجاز العشق»، أو بتعبير آخر، يبدأ التخييل قبل الحكاية، ومن هنا، تبدأ صعوبات عديدة: صعوبة الكتابة، والبحث عن طريقة بنائها، وصعوبة قبول هذا النوع من التخييل الروائي، وهو يشق مسار الكتابة، بدون سندِ حكايةٍ جاهزةٍ من الخيال أو الواقع، ثم الصعوبة التي تواجهها الكتابة، وهي تُكون ذاكرة من رحم الكتابة. إنها مجموعة من التحديات التي تشكل جوهر نشوء رواية «مجاز العشق».
تتبنى الرواية أسلوب الكتابة بالتقطيع، لا نقصد بذلك، مفهوم التجريب، الذي يُشتت الحكاية، ويُفككها، ويعرضها بشكل غير مُرتب، ويجعلها غير مُحققة إلا مع قارئٍ، قادرٍ على ترتيب الحكاية، وإعطائها نظاما، فيتحول القارئ ـ بموجب ذلك- إلى مُشاركٍ في إعادة تنظيم حكاية موجودة سلفا، غير أن تحققها مشروط بقارئ ـ سارد. ما يحدث في «مجاز العشق» يختلف عن نظام التجريب، ولكن يمكن اعتباره استمرارا وتطويرا له. فالحكاية لا تنبع من ذاكرة جاهزة، إنما من ذاكرة تتشكل مع الكتابة/التفاعل.
أما المستوى الثاني للانزياح فإنه يتمثل في المستوى التشخيصي للغة، من خلال طبيعة استعمال المعجم، وتركيبة الجمل السردية ذات الطابع الــــــترابطي: «لم يجف القلب إذن وترتجف الطابعة والكومبيوتر والكرسي واللمبة والنافذة وفنجان القهوة وهاتان الركبتان»، والمنفتحة على تقنية التوليد. تحضر اللغة طبقات تعبيرية، تُشخص مبحث «مجاز العشق» في معنى الرواية «التي ترى ما لا يُرى».
كما تحضر الأشياء ذوات عاقلة، وفاعلة، وساردة، تُسير فؤاد وهو يبحث عن بداية ممكنة لروايته.
تُعلن الرواية منذ بداية التفكير فيها، عن أجواء انتمائها، وهي أجواء الزمن التكنولوجي. يحضر الكومبيوتر وسيطا للكتابة والتفكير في الوقت ذاته. يُصبح فعل النقر على الحروف، عملية التفكير في تخييل حكاية ممكنة، تتشكل وفق أشكال لا متناهية، إذ، تؤكد الرواية جهرا بلايقينية الأدب، ليس كما السياسي الذي يعمل على إقناع الآخرين. الروائي/الأدب يوجد خارج سلطة الإقناع، إنه يحث على الحرية، والتصرف في الممكنات والخيارات المعروضة، أو غير المعروضة. كما أن «مجاز العشق» تُحفز على تأمل/ ممارسة فكرة التأليف الجماعي للحكاية. الرواية ـ حسب خطاب مجاز العشق- لم تعد مُتكئة على ذاكرة الروائي، أو الزمن أو التاريخ أو المشترك بين الكاتب والقارئ، إنما يمكن أن تكون الرواية هي ذاكرة لما سيتم تحقيقه بالتخييل/التفعيل حكاية مقبلة، أو حكاية وفق عملية التفكير في الكتابة. لكن، ألا تطرح «مجاز العشق» بهذا التركيب، سؤال الذاكرة في الحياة التكنولوجية اليوم؟ أم أنها عبارة عن سعي تجريبي للبحث في أفق جديد لذاكرة الرواية، بعدما بدأت مظاهر تحصين الذاكرة تتلاشى، مع الخيارات والتطبيقات التكنولوجية، التي تشتغل باتجاه محو الذاكرة، وخلق ذاكرة جديدة؟ أم تُسائل « مجاز العشق» فضاء الكتابة الجديد/الكومبيوتر، وقدرته على خلق الخيال؟ ودور خياراته اللا متناهية من الأشكال، في تدمير نظام الشكل المألوف، يقول فؤاد مؤلف الرواية مبحث «مجاز العشق»: «هذا الخيال الجديد يُقلقني: صورة توحد العالم وتذرره: صورة تبدد أحلام النومة السابعة: صورة تُقوض الأسطورة كما تُقوض التاريخ: أي خيال سيكون إذن لرواية؟
«مجاز العشق» رواية تنكتب وهي تبحث في سؤال كتابتها، وتبحث عن ذاكرة يمكن البداية منها، ولذلك، يتسع مجال الذاكرة ويتشتت، ويتفرع إلى أشكال لامتناهية: هل يمكن إذن، البداية من الماء، باعتباره يحضر في الرواية مبحثا، وصدى لفلسفة باشلار «الماء والأحلام»؟ وكيف يتحقق مبدأ التأمل الساحر في كل البدايات، مع مفهوم «الماء»؟ وهل تبحث الرواية في شكل آخر للخيال؟
هل يمكن اعتبار «مجاز العشق» من النصوص التي تُؤسس للحالة الانتقالية للشكل الروائي، وهو ينخرط في فضاء التكنولوجية، فيأتي ممتلئا بأسئلة التحول التاريخي؟
(القدس العربي)