في حاجتنا إلى الغاز المضحك
منصف الوهايبي
يعرّف الضحك من حيث هو ردّ فعل فسيولوجي، تتعدّد أسبابه من حالات المرح والفرح، إلى الاستمتاع بنكتة أو نادرة أو مداعبة. وهذه ظواهر بدأت تتقلّص وتضمر في مجتمعنا، وربّما في مجتمعات أخرى قريبة منّا، أو هي على نسب بنا؛ لأسباب شتّى قد ترجع إلى نوع من اليأس والإحباط وانسداد الآفاق، فضلا عن البطالة وغلاء المعيشة، واضطراب أوضاع البلاد العربيّة خاصّة؛ ناهيك عن تحوّلات العالم، والحرب على الإرهاب.
غير أنّ ما قرأته عن الأكسيد النتري أو ما يسمّى «الغاز المضحك» الذي يحفز الإنسان
عندما يستنشقه، على إطلاق نوبات من الضحك الهستيري؛ قد يكون خير علاج لهذه الحالات أو الظواهر التي بدأت تنخر مجتمعاتنا، حتّى أنّ الواحد منّا فقد حسّ الاستجابة لا للنّكتة فحسب، وإنّما أيضا للملامسة الجسديّة مثل الضغط على عصب الزند (عظم الزند أو العظمة المرحة) التي كانت تجعلنا؛ ونحن صغار نضحك حتّى تدمع عيوننا. ما البأس إذن لو استعمل رجال الأمن الأكسيد النتري، بدل القنابل المسيلة للدّموع، في قمع المظاهرات؟ ماذا لو أمرت وزارة الداخليّة أعوان البلديّة مثلا، بأن يرشّوا على المواطنين، كلّ صباح، شيئا من هذا الغاز المضحك، سواء أكانوا متوجّهين إلى أعمالهم، أم كانوا مسترخين في مقاهينا العامرة بالعاطلين، أم كانوا يتدافعون في الأسواق؟
لا شكّ أنّنا سنستمتع بمواطنينا ومواطناتنا وقد أخذتهم نوبات من الضحك الهستيري، وهم يتظاهرون أو ينتخبون أو يتسوّقون، غير مبالين ببطالة أو غلاء معيشة أو انتخابات أو حروب: التونسيّة بضحكتها النّغميّة الحادّة، والتونسي بضحكته الغليظة المتقطّعة أو المسترسلة، بل إنّ حيواناتنا التونسيّة الأليفة لن تتوانى عن مشاركتنا هذا الضحك، خاصّة الكلاب منها والفئران والثّدييات من غير الإنسان مثل القردة؛ علما بأنّ الحيوانات تضحك، وليس الأمر على ما زعم أرسطو، وإن كان ضحكها شهيقا وزفيرا أو لهاثا أو سقسقة.
وهذه نصوص قصيرة، لعلّ فيها ما يُضحك؛ أجمعها من تفاريق في ذاكرة أبي هي كباقي الوشم. وأغني فيها عن الشّاهد بالغائب، ولا أضمّن كلّ ما هو مغمور مستور في ذاكرتي.
ولعلّها أشبه بالمخطوط الذي لحقت بأصله آثار رطوبة وطمس، أتت على أوراق كثيرة منه. ويزيد في عدم وضوحه أنّ ما سلم منه مكتوب على ورق فيه أثر كتابة أخرى. وفيه أسقاطٌ تتنوّع إلى سقوط حرف وكلمة وكلمتين، وسطر وأكثر من ثلاثة أسطر أحيانا! فلنترك القارئ يستكمل النّاقص ويوضّح المطموس.
بل هي أشبه بـ»فنّ التوقيعات» أو «التوقيع» في الأدب العربي القديم؛ حيث يرد الكلام في إيجاز موقّع، أو خطف كالنبض. ومن أمثلته الشهيرة أنّ أحد وُلَاة معاوية بن أبي سفيان (41هـ – 60هـ) كتب إلى الخليفة يسأله أن يعينه على بناء دار له بالبصرة، باثنى عشر ألف جذع من النخل. فوقَّع معاوية على رسالته بقوله: «يا هذا.. أدارك في البصرة، أم البصرة في دارك؟» وكذلك ما يروى عن عقيل بن أبي طالب، وكان كفيف البصر؛ فقد وفد على معاوية، فقال له الخليفة كالمواسي، وهو يغمز:
ـ أنتم بني هاشم تُصابون في أبصاركم.
فردّ عليه عقيل موقّعا:
ـ وأنتم بني أميّة تصابون في بصائركم.
وأذكر أنّي كنت في مدينة مرسية في إسبانيا في ملتقى الشعر العالمي، عندما علمت من أبي، بوفاة بورقيبة (6 نيسان/أبريل 2000). وسألته عن وقع الخبر على التّونسيّين. أجاب: «لا شيء، ولكنّ الجميع كعادتهم، يحرّكون أجسادهم لأمام ووراء». قلت: «لم أفهم.» قال: «عندما تعود، سأشرح لك. التّلفون مكلف». ولكنّني ألححت عليه. قال:»سأروي لك حكاية روسيّة، ولك أن تفهمها كما تشاء. يروي الرّوس أنّ جوزيف ستالين ونيكيتا خروتشوف وليونيد بريجنيف سافروا معا في رحلة بالقطار. وفجأة توقـّـف القطار دون سابق إنذار. وطال وقوفه، ولا شيء ينبئ بتحرّكه. فالتفت خروتشوف وبريجنيف ناحية ستالين، وكأنّهما يسألان: ما العمل أيّها الرّفيق ستالين؟ نادى ستالين على أحد حرّاسه، وهمس في أذنه؛ ثمّ صرفه. وقال لرفيقيه: «لقد أمرت بقتل السّائق، ونفي مساعده إلى معتقل في سيبيريا؛ لضلوعهما في هذا العمل التّخريبي: وقوف القطار دون موجب.. انتظرا قليلا سيتحرّك القطار». ولم يتحرّك القطار، وثقلت أجفان ستالين،فاستغرق في نومته الأبديّة. عندها نهض خروتشوف، وأمر بجلب مساعد السّائق وهو يقول: «قليلا من الصّبر أيّها الرفيق ليونيد، سيتحرّك القطار.لا بدّ أنّ المساعد قادر على تشغيله». ولكنّ المسكين، لهول ما أصابه، جاء بذاكرة مثقوبة؛ وعجز عن إصلاح العطب. ولم يتحرّك القطار.وثقلت أجفان خروتشوف، واستغرق في نومته الأبديّة. عندها نهض بريجنيف، وصاح في الحرّاس: «اطلبوا إلى جميع الركّاب أن يحرّكوا أجسادهم لأمام ووراء… هكذا جيئة وذهابا..» قال أبي: كما كنّا نفعل في الكتـّاب أمام ألواحنا الطينيّة، وأضاف: أجل، هكذا يلوح القطار، بعد بورقيبة، وكأنّه يتحرّك».
ربّما لا غرابة أن تجري الأشياء في التلفزيون التونسي بالمقلوب.. فأوّل صورة بثّتها التلفزة عام1966 كانت بالمقلوب لمذيعة رأسها إلى أسفل وساقاها إلى أعلى. ويبدو أنّها الصّورة نفسها التي نشاهدها كلّ يوم. ولكي تراها كما هي فما عليك إلاّ أن تقلب تلفزيونك، أو أن تنظر إليه من علٍ.
يقول أبي في ورقاته:» شُفيت من أثر الرّصاصة التي اخترقت زندي، فدعاني شيخ أولاد (س) إلى بيته في حمّام الأنف (ضاحية قريبة من العاصمة) واستقبلني بشوشا مرحّبا هو وزوجته حدّة. كانت تحضن بنتا صغيرة تفيض عيناها الزرقاوان الواسعتان فرحا وبشرا. قال الشيخ:»هذه ابنتنا معيوفة». أكرمني الزوجان أيّما إكرام، ثم انتحيا بي جانبا في شرفة خلف المنزل تظللها دالية غابت عنها عناقيد العنب التي كانت تثقلها، وأخذا يزيّنان لي السفر إلى طرابلس. «سوف تسافر لأيام قليلة في رحلة بحرية من سوسة، تحرس بضاعة لنا نسوّقها هناك وبضاعة لنا تأتينا من هناك. ستغنم ما يغنيك عن البطالة في تونس وستعود قبل أن يبدأ موسم الحرث والبذر». هل أنا قدَر هذه العائلة أم هي قدَري؟ لماذا تحشرني الأحداث في مسار حياتهم وتحشرهم في مسار حياتي؟ لعلّ المساريْن صارا مسارا واحدا. دع الأحداث تأخذك إلى حيث تشاء هي.. ألا تؤمن بالقضاء والقدَر يا مختار؟ ألم تكن تحبّ لعبة الأقدار وتقول «لننتظر إلى أين تأخذنا هذه السكّة. لا خوف علينا فنحن نستطيع أن نغيّر مسارنا متى شئنا وأنّى شئنا». يقول أبي: «أبحرت السفينة شمالا فاستغربت الأمر؛ ذلك أنّي كنت أعتقد أنّ طرابلس تقع جنوب شرق سوسة. هل ركبت سفينة أخرى؟ مستحيل. لقد شيّعني شيخ أولاد (س) ولوّح لي وأنا على ظهر السفينة، ولكني جاريت الأحداث على عادتي فضولا وشغفا بالغريب العجيب. ثم ما ضّر لو انزلقت طرابلس قليلا أو كثيرا غربا أو شمالا؟ في العشيّة خرجت إلى السّطح أتملّى البحر والسماء، ووجوه المسافرين الذين تفرّقوا هنا وهناك. اقتربت من بعضهم أسألهم عن وجهة السفينة؛ فلم يردّوا كأنْ لم يسمعوا ولم يروا. حشرت نفسي بينهم ولكنّهم لم ينتبهوا لي. فجأة سمعت ابن عمّي علي الساسي يناديني: «يا مختار ماذا تفعل هنا يا مختار؟» فبهتّ وقلت له: «يا علي يا ابن عمّي ما الذي جاء بك وإلى اين نحن ذاهبان؟»، فنظر إليّ مستغربا «ألا تعرف؟» ثم ضحك وهو يقول: «أنا أيضا لا أعرف. يدفعون لي ويقولون «اركب» وها أنذا راكب».
لماذا يضحك صاحبي كلّما اشتدّ به كرب؟ أهو تفريج عن النفس أم هروب إلى بّر أمان لا يدركه أبدا. والضحك أنواع ومعان، فهناك ضحكة القرد حين يصّوت، أهو يضحك من نفسه أم لها؟ وهناك ضحكة السّحاب حين يبرق.. لا تدري أبشيرا كان أم نذيرا. وهناك ضحكة تضحك لها الأرض فتنشقّ عن بقلها وقثّائها وفومها وزهرها. وهناك الضحكة الصفراء، وهناك ضحك كالبكاء.
٭٭٭
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى الضحك، عسى أن نتحرّر من هذه الطهرانيّة.. من السبسكيزي.. هذا الخوف من سعادة الآخرين.. الخوف من أن يكون إنسان ما سعيدا في مكان ما.. كان لا بدّ من فتح مدارس نعلّم فيها أبناءنا بوذيّة الزن اليابانيّة.. قال البروفيسور للمعلّم تان ـ ان: لقد جئت لكي أبحث في موضوع الزن. قال تان ـ ان: إجلسْ يا بروفيسور، وتناول الشاي معي. ثمّ أعدّ الشاي، وأخذ يصبّ قدحا للبروفيسور، واستمرّ يصبّ حتى امتلأ، ورشح على جانبه. والبروفيسور يراقب برعب، حتى إذا لم يقدر على أن يتمالك نفسه، صاح بالمعلّم:
كفى لقد امتلأت الكأس !
فقال تان ـ ان: أنت مثل هذه الكأس، ممتلئ بالآراء والأفكار، فكيف تريدني أن أشرح لك الزن، قبل أن تـُفرِغ هذه الكأس؟
(القدس العربي)