«أخلقة الأدب» وعودة التابوهات في الجزائر
سعيد خطيبي
فجأة، عاد سؤال «أخلقة الأدب» في الجزائر، وراح البعض يُعلق ويتحدث عما يطلق عليه «الأدب النظيف»، لكن بدون أن نعرف ما هو المقصود ـ تحديداً ـ من هذا المصطلح. ظاهرياً، يبدو أن المُراد منه هو كتابة أدبية خالية من «الحميميات»، مفرغة من الحالات النفسية، كتابة أدبية تُعنى بتوصيف الظاهر وتتفادى الخوض في الباطن وفي اللامرئي. هناك من يُريد من الأدب أن يكون كتابة تقريرية، أو حكايات ونكت للتسلية، يركز على الملموس ويتفادى المحسوس، يتحدث عما تراه العين ويغض الطرف عما نشعر به. إن فرض حدود على كتابة أدبية، وتحديد أشكال تلقيها، هو ـ في حد ذاته ـ تابو، ومنطق يتعارض مع ماهية الأدب، ينضاف إلى قائمة التابوهات الأخرى، في الأدب الجزائري، التي كلما اعتقدنا أنها تراجعت ازدادت حضوراً.
هل سيكون لبعض النصوص الجزائرية الأساسية معنى لو أسقطنا منها التابوهات؟ الإجابة لا. إن إفراغ تلك النصوص من «صداميتها» وقلقها ومن محاولاتها في كسر التابوهات، سيجعل منها نصوصاً عادية، وسيُفقدها قيمتها. من جهة أخرى، سيكون من المهم أن نتابع تحولات التابوهات، في الجزائر، فبعض ما كان محظوراً صار مسموحاً به، وبعض ما كان يُنظر إليه كأنه أمر عادي صار ممنوعاً. «السياسة» لم تعد من التابوهات فعلاً، إنها في تغير مستمر، صار من المتاح الحديث عنها ومناقشتها ونقدها، خصوصاً في الرواية، صار من الممكن الحديث عن حقبة ثورة التحرير، وما رافقها من انقلابات داخلية، ومن انزلاقات أيضاً، كما بات من الممكن انتقاد فترة حكم الرئيس الأسبق هواري بومدين، وانتقاد خياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الطعن في الاشتراكية وفي نظام الحزب الواحد، وصار من المُتاح الحديث عن الهوية الأمازيغية، والمُجاهرة باختلافاتها وبتفردها أيضاً، مع ذلك ليس من السهل الحديث ونقد بعض الشخصيات السياسية الأخرى، بعض منها قد مات (مثل الأمير عبد القادر أو عبد الحميد بن باديس)، وبعض آخر لا يزال على قيد الحياة، بالتالي فإن تابو السياسة ليس خطاً أحمر، بل هو برتقالي، يمكن مقاربته لكن بحذر، بسقف حريات منخفض، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالسياسة في الوقت الراهن، وسيتحول البرتقالي إلى أحمر إذا فكر روائي أو قاص في الكتابة عن الرئيس الحالي، أو عن مقربين منه.
كانت السياسة في الجزائر واضحة، أفقية، بمسميات معروفة، ومنذ الانفتاح النسبي، الذي عرفته البلاد، في ربع القرن الماضي، تحولت السياسة إلى أرض معارك ومصالح ودسائس وخصامات متداخلة في ما بينها، وكل كاتب يقترب منها، ومن الكتابة عنها، ربما سيُنظر إلى نصوصه باعتبارها «ولاءً» أو «مُعارضة» وأنها مقاربات أيديولوجية، ما أوجد تعارضاً ـ مفتعلاً ـ بين السياسة والأدب، كان قد عبر عنه ستندال قائلاً: «توريط الأدب في السياسة يشبه إطلاق رصاصة وسط حفلة موسيقى».
الأدب في الجزائر يخضع ـ دائماً ـ للقراءات السياسية، بعض الكتاب يصنفون سياسياً بحسب كتاباتهم، مهما ابتعدت عن الانشغالات السياسية للمرحلة التي يعيشون فيها، وخير مثال عن هذا الوضع هو الروائي بوعلام صنصال، منذ باكورته «قسم البرابرة»(1999) إلى غاية رواية «2084 نهاية العالم»(2015)، يجد نفسه، مع كل إصدار، تحت عين الرقيب السياسي، كما إن قراء يؤولون نصوصه سياسياً، وسنجد الحال نفسه مع الروائي ياسمينة خضرا، هكذا إذن كلما حاول الكاتب تجاوز تابو السياسة، وجد نفسه متورطاً فيه، قد يقفز فوقه، ويكسر المحظورات، لكن، في الجهة المُقابلة، سيجد قارئاً يتعامل مع نصه من منظور سياسي، ويتحول الأدب في منظور متلقيه، من حامل جمالية إلى حامل رسالة سياسية، كما إن المحمول السياسي لنص أدبي لا يتوقف على ما يُريد كاتب الذهاب إليه، بل يتوقف على شكل التأويل الذي يميل إليه كل واحد من القراء أو من النقاد، مع ذلك كل محاولة إفراغ نص من السياسة هي محاولة فاشلة، فكل كتابة هي سياسة بحكم أنها تعبر عن حقبة زمنية معينة، كما قال سارتر، إضافة إلى إن التأويلات السياسية للنصوص الأدبية تختلف بحسب المرحلة التاريخية، وقد يختلف التلقي السياسي لنص أدبي من فترة لأخرى، لكن أبداً لن يتخلص نص أدبي في الجزائر من قراءة سياسية مهما ابتعد عنها.
الجنس هو واحد من الموضوعات التي لا نتحدث عنها كثيراً في الجزائر (لا في الأسرة ولا في المدرسة) لكنه من الموضوعات الأكثر إثارة للفضول، ولا يجد مكانا له أفضل من الأدب (بحكم أن السينما خضعت للضغط الاجتماعي وصارت تتجنبه) لكنه يظل أيضاً من التابوهات. وبحكم أن الأدب في الجزائر «فضاء ذكوري» بامتياز، فإن الكتابة عن الجنس في الرواية يحتكرها الكتاب الرجال، يكتبون عن الجسد وعن اللذة وعن رغبات المرأة، وهذه الأخيرة ليس لها سوى أن تقرأ في صمت، أن تنظر إلى جسدها وتتحسسه في نصوص الرجال، وليس لها الحق في إبداء رأي حول الموضوع. المرأة في الجزائر ليست لها سيادة على جسدها، وعلى شهواتها، هي تخضع للقوانين التي وضعها الرجل، لا يحق لها أن تلبس ما تشاء أو تذهب حيثما تشاء، بل يجب أن تحترم الحدود الذكورية، التي تستر جسدها، كي تعمل مخيلة الرجل في تعريتها، وغالباً ما تكون كتابات الرجل عن جسد المرأة سطحية، لأن المرأة الجزائرية لا تتكلم عن حياتها الحميمة إلا ما ندر، ولن تستطيع أن تكتب عن حياتها الداخلية خوفاً من تأويلات المتلقين لها، الذين ينظرون لكل امرأة تتجرأ على ممارسة حريتها في الكتابة، كما لو أنها امرأة «ساقطة». يمكن القول إن المرأة الجزائرية لم «تتحرر» ولم تمتلك جسداً ولم تجد مكانتها الاجتماعية سوى في الأدب، لأنها في الحياة العادية مقموعة.
في ظل هذا الوضع يصير الجنس تابو ذا بعدين، يصعب على الرجل فهمه والكتابة عنه كما يجب، ويمنع على المرأة الحديث فيه، ومن جهة أخرى سنجد شريحة من القراء تتقبل هذا النوع من الكتابات، حين تأتي من الخارج، لا يضرهم أن يقرأوا عن الحياة الإيروتيكية لكاتبة غربية، ويرفضون قراءة أمر مماثل من كاتبة محلية.
ويبقى الدين من التابوهات، الأكثر تعقيداً، في الأدب الجزائري، هناك من الكتاب من يتجنب الكتابة عنه أو نقده تفادياً لأحكام القراء، وهناك من ينتقده، ولكن بشكل ناعم. لقد فضل ألبير كامو أن ينتقد الدين، بشكل مبطن وذكي، بانتقائه كتابة عبثية في رواية «الغريب»، وفعل رشيد بوجدرة شيئاً مشابهاً، بدفع شخصيات رواياته الأولى للابتعاد عن الدين، لكن مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ثم دخول البلد مرحلة العنف الإسلامي، تورط المسجد في الأدب، وتعددت فتاوى تصفية كتّاب، وترسخ خوف عميق من مقاربة الدين في الأدب، خوفاً من ردود فعل «أئمة الأدب» أو من انزعاج قراء، تربوا على عدم مُساءلة القضايا الدينية. «تابوهات السياسة والدين والجنس لا تزال قائمة. في ما عدا بعض الاستثناءات. وهناك تفاوت بيْن الكُتاب والتابوهات ذاتها. إذْ في الوقت الذي نلمس فيه نوعاً من التحرر السياسي ـ وإن ورد في معظم الكتابات مُقحماً فجاً ـ يبقى الدين والجنس محكومين بذهنية مُحافظة». يقول الناقد عامر مخلوف.
رغم أن دستور الجزائر يضمن حرية الفرد، لكن الرقابة الذاتية تحكم عقول بعض الكتاب، وتفرض عليهم الحذر في التعامل مع المعطى الديني (خصوصاً الإسلامي السني) في كتاباتهم. وهذا أمر أوجد شريحة من القراء ومن المهتمين بالأدب تنادي لكتابة ما تسميه الأدب الإسلامي، أي أدب مُحافظ يرافع من أجل قيم الدين، ولا يهمهم أن كانت ـ هذه القيم ـ تتعارض مع الحريات الفردية في الأدب. «المجتمع يظل حبيس العقلية البالية، فضلاً عن ضغوط التيارات الدينية» يُضيف عامر مخلوف.
أمام تعدد التابوهات في الأدب الجزائري، نتساءل عن جدوى المناداة ﺑ«أخلقة الأدب»، فهو أدب محكوم عليه ـ من البداية ـ بالانصياع لقوانين الجماعة، التي أنبتت رقابة ذاتية عميقة في أذهان الكتاب، وأي «أخلقة» إضافية أخرى ليست سوى حجر على ما تبقى من حريات وإنقاص من قيمة الأدب، بل هي وأد له! مع ذلك «يمكن للكاتب أن يتحايل على الممنوع، بل إن العمل الأدبي الناجح هو الذي ينبني على التحايُل والتلميح. إن المداورة هي ما يميز الأدب من سائر النشاطات. في حين يُقال إن أنجح الأعمال الأدبية أقدرُها على إخفاء الأيديولوجيا، فإن هذا ينسحب على التابوهات أيضاً، وإلا جاء المُحرم نشازاً في السياق يُسيء إلى العمل فلا يحقق إلا إثارة عابرة إن لم يكن مُنفراً». يختتم الناقد عامر مخلوف.
(القدس العربي)