حسين نشوان يقرأ تجليات المشهد الأردني شعرا وسردا

محمد الحمامصي
يضم هذا الكتابِ “البحث عن لغة.. دراسات في الشعر والسرد” للناقد والفنان التشكيلي حسين نشوان مجموعةً من الدراسات التي تتنوعُ بين قراءاتٍ لإصداراتٍ سرديةٍ وشعرية، أو لتجاربَ إبداعيةٍ تتناول موضعاً أثيراً عند الشاعر أو القاصّ أو الروائي.

وهي قراءاتٌ وفقا لـ “نشوان” متباعدةٌ في الحقول والأزمان؛ ولكنها تنطلق للبحث عن اللغةِ التي يتمثلها المبدعُ، بما هي وسيلة للتعبير والتخاطب، وبما هي وسيلة الأسلوب الذي يضارع الخطابَ.

في القراءات التي تناولت تجاربَ لمبدعين من أجيال متباعدة، وأساليبَ مختلفة، تتبدى الكثير من العناوين التي تقارب الدراسة باختلاف وسائلها وموضوعاتها وأجيالها.

وأضاف “في مجموعة الشاعرة زليخة أبو ريشة محاولةٌ للبحث عن مرجعيات الأنثى بمعادل الأسطورة والطبيعة واللغة، بينما تتستّر لغة جميلة عمايرة بانزياحاتِ الحلم للاحتيال على الواقع. وكما يتمثل حكمت النوايسة المشهدَ الدرامي لاجتماع التاريخ بالراهنِ، فإنّ غازي الذيبة يستحضر الغياب لإنكار الحاضر، وهو ما يتضح في رواية هزاع البراري التي أبطن حواشيها بتحولاتِ المكان الأسطورية؛ لفهم مغزى الموت، ومعنى الحياة بما أنتج المكان من وعيٍ، وما تركت المثيولوجيا من حكايةٍ، وربما هو ما قالته رواية “ربيع حار” لسحر خليفة في قراءة التحوّلات التي حملتها رواية المرأة التي فارقتْ السائد. ولكن الشاعر حسين جلعاد في “العالي يُصْلَبُ دائما” تفادى فكرةَ الاعتراف بالأسطورة، ليعيدَ ترتيب الأشياء من جديد، وهو ترتيب يقوم على تشكيل السؤال بلغةٍ جديدةٍ وصادمةٍ، وبعكسه تماماً يذهبُ حكمت النوايسة، في تجربته المتحولة بمقارباتٍ بين شكل النص وإيقاع اللغة وغموضِ التاريخ.

وقال نشوان “في القراءة التي تتسعُ فيها الأزمنةُ والأمكنةُ برمزيات التاريخ والأسطورة، تلجأ الدراسةُ لمقايساتِ المنهج الثقافي لدراسة جملة المرجعيات التي تكوّن نسيجَ النصِّ لتفكيكه وإعادة بناءاته المثيولوجية والأنثربولوجية والثقافية؛ لفهم المكونات التي انطوى عليها النصُّ، وكذلك المؤثثات التي استبعدها النص، ولماذا تم استبعادها؟ فالاستبعاد هو أيضاً حيلة تخيلية لاقتراح كينونة حقيقية بأدواتٍ وهميةٍ، تتجلى في اللجوء إلى لغة الحلم أو الدراما والصورة والإسقاطات التاريخية والاستعارات الأسطورية واللجوء إلى المتخيل”.

في الكتاب الصادر بدعم من وزارة الثقافة، عن دار “الآن” ناشرون وموزعون، دراسات نشر بعضها في دوريات محلية وعربية، تتناول سبعَ مجموعاتٍ شعريةٍ، لكل من: زليخة أبو ريشة “كلام منحّى”، وخالد محادين “لكَم تزدحم المدينة بالنساء المتعبات”، وحكمت النوايسة “الصعود إلى مؤتة”، وعبدالله رضوان (مقام المليحة)، وغازي الذيبة “خفقة الذرى”، وحسين جلعاد “العالي يصلب دائماً”، ومريم شريف “أباريق الغروب”.

وفي الرواية، تتناول الدراسات أعمالاً لكلٍّ من: ليلى الأطرش “مرافئ الوهم”، وهزاع البراري “الغريب”، وسحر خليفة “ربيع حار”.

وفي القصة جرت دراسة أعمال كلٍّ من: محمود الريماوي “فارق التوقيت”، وسعود قبيلات “مشي”، وجميلة عمايرة “الدرجات”.

وهي بحسب “نشوان” اختياراتٌ لا تنطلقُ من تخطيطٍ مسبقٍ بقدر ما تصدرُ عن اشتمالٍ عفوي لقراءاتٍ متفرقةٍ تسنىّ لها أنْ تجتمعَ في كتاب.

• “مرافئ الوهم” للروائية ليلى الأطرش

في تحليله لرواية “مرافئ الوهم” للروائية ليلى الأطرش، رأى “نشوان” أنها “واحدة من الروايات الحديثة التي عنيت بالبناءات السرديّة التقليدية، وأضافت إليه تقنية جديدة يمكن وصفها بـ “الفضاء” (من الفضائيات)، وهي تقنية مشتقة من خصائص وإمكانيات الكاميرا والتلفزيون والمونتاج والإخراج التي حولت الزمانَ إلى سرعةِ الضوء، والمكانَ إلى قريةٍ صغيرةٍ، والذاكرةَ إلى مادةٍ أرشيفيةٍ يمكن معاينتها بصرياً.

وقال “أفادت الروائية ليلى الأطرش التي صدر لها روايات “صهيل المسافات”، “تشرق غرباً”، “امرأة الفصول” من عملها في الإعلام المكتوب والمرئي لاقتراح تقنية يتنافذ فيها “الحكي” و”المشاهدة”، لتوظيف مقدرتها على اختزال الزمان والمكان في مساحةٍ قابلةٍ للسيطرة ضمن حدود “الأستوديو” وانفتاح عدسة “الكاميرا”، وبموازاة ذلك إظهار ما يدور وراء “الكاميرا” أو ما يسمّى “الكواليس”.

ومن هنا فإن رواية “مرافئ الوهم” تقوم على سلسلة من التوازيات (الأنساق) التي تتصل بالتقنيات والبناءات الحكائية والصورية لخلق حالةٍ من التصادمِ بين القديم والحديث؛ للإفصاح عن الواقع وتناقضاته؛ فالرواية تنبني على نوعين تعبيريين متلازمين، هما الروي/ الحكي، والصورة التلفزيونية/ المشاهدة.

يقوم الروي “الحكي” على الحوارات، والأسئلة، والضمائر، والمنولوج، والتحقيق، والاستذكار، والحلم. أمّا الصورةُ فتعتمدُ على التقطيعِ، والأرشيفِ، والمزج، والمونتاج، واختزال المكان، وتعدد خطوط الزمان بين “التعاقبي” التتبعي والارتدادي والاستعادي والتقافزي. وتمزج الرواية بين أسلوبي الحكي والصورة؛ لإغناء النص من خلال التقنيات التي يوفرها اتساع الفضاء”.

• “الصعود إلى مؤتة” لحكمت النوايسة

وفي تحليله لديوان “الصعود إلى مؤتة” لحكمت النوايسة.. قال “تشكل القصيدة عند الشاعر حكمت النوايسة مختبراً للغة، ومرآةَ تحولاتها، ووسيلةً لفهم الواقع وتفسير الوجود، وبهذا المعنى؛ فإن العلاقة بين اللغة والقصيدة ليست علاقةً بنائيةً تكامليةً فحسب، وإنما هي أيضاً علاقة تضاد بين نظامين معرفيين ونسقين مختلفين ومتناقضين، مثل الشكل والمضمون أو اللغة والمعنى.

ونظراً لاهتمام النوايسة برؤية فلسفيةٍ تقوم على قراءة التاريخ والتراث والمكان لغوياً، فقد تجلت مظاهر القصيدة عند النوايسة بإثراء تجاربها بالمعارف والفنون وتراسل العلوم التي تحصل فيها دراسات في اللغة والجغرافيا، وهواجس فلسفية تتجاوز أشكال التعبير المختلفة وعناصرها البنائية إلى جوهرها، وشكلت الدراما التي تمتاز بتعدد الأصوات، وتنوع الصور، وتتابع الأحداث “تعاقبها” و”تصادمها” مختبراً لسبر أغوار تلك التشابكات في مكونات النص، كما شكلت ملمحاً مهماً في تجربة الشاعر.

وأكد نشوان أن فكرة الدراما في قصيدة النوايسة تنطلق من ارتباطها بشريان الحياة لجهة النص والموضوع، والفضاء والحيّز لجهة الشكل، بسعيها إلى استعادة الواقعة التاريخية في جغرافيتها وفق متخيل الحاضر، وليس في إسقاطه على الراهن لتكون الدراما في القصيدة نصَّ الحياة في تجلياته المكانية والزمانية والإنسانية، التي ارتبط فيها الشعر تاريخياً بالمسرح الذي يضارع الحياة في صراعها وتفاعلها وانفصالاتها وتمثلاته الأسطورية.

ورأى أن النوايسة في ديوان “الصعود إلى مؤتة” شكل تطوراً مهماً في تجربته الشعرية، ومفصلاً واضحاً، ليس على صعيد الانتقالة التي وسّعت المسافة مع مجموعته الأولى “عزف على أوتار خارجية” وحسبْ، وإنما لجهة النزوع الدرامي الذي اجتمعت فيه “مؤتة” المكان مع الواقعة التاريخية، معركة مؤتة “الزمان”، والذات الشاعرة والموضوع الحكائي السردي، والبناء الفني “القصيدة” مع التشكيل الاجتماعي كأنساق متداخلة ومتشابكة تعيدُ مساءلة الواقع بظلال التاريخ.

فالديوان “الصعود إلى مؤتة” يتكون من قصيدةٍ طويلةٍ تقع في لوحتين أو نَفَسَين، تحمل الأولى عنوان: “مدارات الحقيقة”، والثانية: “مدارات السؤال”، وكأن الشاعر يقابل بين الافتراض والواقع من زاوية المرئي المشاهد في المكان، والمرئي الساقط على عدسة الكاميرا. وهي مقاربة تنطوي على نصين يقعان بين الحقيقة والشك، الواقع والوهم، وصور تتشابك فيها مشاهدُ متناقضةٌ ومتصادمةٌ بين الذات والآخر، الماضي والحاضر، الحقيقة والخيال، المكان والأنثى يمتاز بالحركة والانتقال وتعدد المستويات في اللغة والبناء.

• “لكَم تزدحم المدينة بالنساء المتعبات” لخالد محادين

وأشار نشوان في قراءته لديوان “لكَم تزدحم المدينة بالنساء المتعبات” لخالد محادين إلى العلاقة التي تربط الشاعر خالد محادين بالمدينة حيث قال “بينه وبين المدينة والمرأة علاقةٌ شائكةٌ وملتبسةٌ؛ فهو لا يتحدث عن مدينة واحدةٍ، بل عن مدنٍ، وعندما يتحدث عن مدينة معينة، فإنها لا تستوي على خط واحد، ولا تقف عند صفة واحدة، وإنما تتعدد فيها الصفات إلى حد التناقض. وحينما تـُذكر المدينة تـَحضر المرأة كقرينة لها، إن كان باسمها الصريح أو بصفاتها، أو بالإشارة إليها بدلالات التأنيث، وهو حضور “وسيطي تلازمي” لا يغني أحدهما عن الآخر؛ فقد جاء حضور المرأة والمدينة في قصيدة خالد محادين كمتلازمتين بكثافة لافتة من خلال العنوان، سواءً أكان عنوان مجموعة شعرية أو قصيدة، أم من خلال المتن أو النص؛ ففي كل مجموعاته تحضر المرأة بذاتها أو بتأكيد الغياب، وكذلك المدينة التي تتكرر في غالبية النصوص والمجموعات الشعرية؛ فالشاعر لا يضع خطاً فاصلاً بين المرأة والمدينة، فهما يفرضان حضورهما بالموافقة أو التعبير عن اللاحضور، أو الشعور بالغربة؛ فالمرأة هي الملاذ في عالم بلا مدن، أو كما يقول: “مدينته الوحيدة في عالم بلا مدن”.

وأضاف: تتجلى أهمية العلاقة بين المرأة والمدينة في تكرار حضورهما في العناوين الرئيسة للقصائد في مجموعة محادين التي حملت عنوان “لكم تزدحم المدينة بالنساء المتعبات” الصادرة أولّ مرة العام 1999، والصادرة أيضاً ضمن الأعمال الشعرية عن أمانة عمان الكبرى (2007).

خلاصة التجربة في المجموعة الجديدة على الصعيد الزمني، أنها الأحدث على صعيد المجموعات الشعرية الست التي صدرت للشاعر منذ العام 1980: “بطاقات لا يحملها البريد”، “رسائل إلى مدينة لم تطهرها النار”، “أوراق جديدة من دفتر قديم”، “لم يبق لدي من الوقت إلا أنت”، “نركض وحيدين ولا نلتقي” و”لكم تزدحم المدينة بالنساء المتعبات”.

• “الدرجات” لجميلة عمايرة

وتناول نشوان تجليات دلالة الحلم في المجموعة القصصية “الدرجات” لجميلة عمايرة، مؤكدا أن الحلم يعد إحدى التقنيات السردية المهمة التي تتيح للروائي إثراء النص بعدد ٍمن المستويات الحكائية والمناخات المتنوعة، وبالمقدار الذي يأتي فيه الحلم كأداة تقنية؛ فهو يندرج نفسياً في إطار الأدوات الدفاعية، الاحتيالية، والذرائعية للبوح، وخصوصا في القضايا التي تثير نوعاً من الحساسيات الاجتماعية والسياسية، أو ما يتعلق بالجسد.

وقال “تلجأ إلى مثل هذه الوسيلة الاحتيالية غالبية القاصات اللواتي يستعرْن تقنيات الحلم لإيقاع المتلقي في وهم اللامسؤولية، التي تحمل على أنها مجرد أضغاث أحلام، تفصّلها مسافاتٌ وبحورٌ عن الواقع، وهو في جانبٍ منه ينطوي على بعدٍ نفسي وآخرَ تأويلي ضمن ثنائية الباطن والظاهر التي تتصل باللغة والوعي، وتفسّر مضامينَه في سياقِ السردِ، الذي تتعدد فيه الدلالات”.

ورأى أن فكرة الحلم تظهر في مجموعة “الدرجات” للقاصة جميلة عمايرة، ففي غالبية صفحاتها، وأحيانا يتم تكرارها أكثر من مرة في الصفحة الواحدة صراحةً أو تضميناً، مثل: أحلام اليقظة، الأمنيات، الكوابيس، الهلوسات، الحذر، الوهم، السراب، الهواجس، المتخيلات، التداعيات، الصور، الذاكرة، الأشباح، الشهوة، الرغبة، الطيف، اللاشعور، الهاتف، الصدى، الرؤيا، المرأة، الشك، السير بإغماض العينين.

وتتأكد المفردة في العناوين كعتبات للنص وتشكل علامات سيميائية تتصل بالمعنى الحلميّ الذي يكشفُ زيفَ الواقع؛ ويمثلُ العنوان في قصة “رمال متحركة” الحالة السرابية للواقع الذي يقوم على وهم الوثوق بانعكاسات الضوْء على الرمال، التي يخالها الناظر كسطوح الماء، ويسعى إلى ري عطشه، إلا أنه حالما يكتشفُ الصورة الخادعة التي ملأت خياله، لتكون العلامة غيرَ حقيقية.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى