الملمح الرومانسي في «سيمفونيات» المغربية حياة نخلي

مصطفى لغتيري

رغم الإغراء الذي مارسه ويمارسه التصنيف التاريخي للمدارس الأدبية على النقاد، من خلال انغماسهم في لعبة التحقيب عبر العصور، إلا أن المتتــــــبع لإنتاجات المبدعين الأدبية عموما والشعرية خصــــــوصا، سيلاحظ أن هذه التحقيبات سرعان ما تذروها ريح الإبداع العاتية، فكلما اطمأن ناقد إلى تصنيفاته، محاولا إيداعها في أرشيف التأريـــــخ الأدبي هانــــئا مطمئـــنا، ما يلبث أن يظهــــر مبدع هنا أو هناك، متمردا على التحقيب، وجارفا التصنـــــيفات المدرسية والأكاديمية إلى هاوية اللاجدوى، لذا فواقع الحال يختلف تماما عن كل التنظيرات المتعالية، فها هي مثلا القصيدة العمودية التي ظــــن البعض أن الزمان قد عفا عليها، وأن ذائقتها الجمالية ذهبت مع الريح، تتجاور جنبا إلى جنب مع قصيدة التفعيلة وقصيدة النشر، ومؤخرا قصيدة الهايكو، بل هناك من الشعراء من يتنقل بين هذه الأنواع جميعها بسلاسة يحسد عليها.
ويصدق هذا الأمر على التوجهات المذهبية التي أثرت في الشعر عبر عصوره، بفرق تلزمه خصوصية لازبة لا مفر منها، فنجد مثلا القصيدة ذات الحمولة الاجتماعية موازية في وجودها مع القصيدة القومية أو القصيدة الملتزمة عموما، كما كل منها تطل من طرف خفي على القصيدة الرومانسية وغيرها.
لقد تهادى كل ذلك في خاطري وأنا أقرأ المجموعة الشعرية الثانية للشاعرة المغربية حياة نخلي»سمفونيات»، هذه الشاعرة التي افتتحت مسارها الإبداعي بالقصيدة العمودية، ممثلة في ديوان حمل عنوان» ترانيم الروح»، ثم ما لبثت أن أغوتها قصيدة النثر، مازجة إياها بقصيدة التفعيلة، محاولة من خلال إيجاد مجال أرحب للبوح بما ثقلت به النفس ولهج به اللسان.
والمطلع على تجربة الشاعرة هذه سيلاحظ أن الطابع الرومانسي قد أطر الجانب الرؤيوي للقصائد، فالذات حاضرة بقوة، وهي التي تعتبر حجر الزاوية في الاتجاه الرومانسي، بحيث يجعلها الشاعر نافذة يطل من خلالها عبر العالم، فتبدو كل تفاصيل الكون انعكاسا لما يمور في ذات الشاعر من هموم وهواجس وأمل، تقول الشاعرة:
لا لست أنا
أبدا لا أشبهني
ولا أشبه ما مضى مني
ولا أشبه ما تبقى..
غريبة أنا وظنوني.
هذه الذات المثقلة بالعبء الوجودي الذي يميز عادة الشاعر الرومانسي، فيجعله ذلك – شاء أم أبى – ينحو نحو المأساة وكأنه يحمل صخرة سيزيف الشهيرة ويدحرجها، وقد دببتها أشواك الواقع، في مرتفعات القلب وشعابه، جاعلا من كل مناسبة فرصة للشكوى والأنين، تقول الشاعرة:
احترقت أنا بأناملك
كسيجارة رخيصة
ولم يبق منك بداخلي
سوى الرماد
وتشتد بالشاعرة العواصف الهوجاء، فتفقد بوصلة الذات في عالم معاد، يحاصرها من كل جانب، فلا يسمح لها باستنشاق هواء نظيف، يعيد للذات بعض وهجها وتوازنها الداخلي كي تستأنف رحلتها من جديد في خضم متلاطم الأمواج، تقول الشاعرة:
أسيرة هي لواعجي
ثائرة حائرة
تسبح في يم مجهول
وهدير موج بلا ماء.
ولا يستقيم الطابع الرومانسي في الكتابة بدون أن تؤثث تفاصيله عناصر الطبيعة، لذا نجد المعجم الدلالي للديوان يغلب عليه حضور الطبيعة في شتى تجلياتها، هنا نجد العاصفة والنجوم والليل والمطر والشوك، تقول الشاعرة:
قد تحنو الشمس
وتصافح نافذتي
ويبدد المطر
شوك النوى
وتنمو سنبلة الهوى
في حضن جزيرتي.
هكذا فرغم الحزن والألم والحسرة، فالشاعرة غالبا ما تنتصر في قصائدها للأمل فتتشبث به كطوق نجاة، ولا تفرط فيه أبدا، فكلما اسودت الدنيا في عينيها، انبلج لها من حيث تدري أو لا تدري ضوء في آخر النفق، تتعلق به العين والقلب، وتمضي حثيثا نحوه بخطوات راسخة، وليس أفضل من الطفولة تعبيرا على هذا الأمل الأخضر، الموشك على الإزهار، تقول الشاعرة:
غدوت طفلة
وفي يدي غصن
من شجر
أستنشق عبق زهرتي
وأسامر القمر.
وإمعانا في هذا التوجد الذي ينتصر للأمل مهما كانت قسوة الظروف المحيطة بها، تقول:
خلف الضجر
لا وطن لي سوى الدموع
تقطنني
ترهقني
تمدني بجرعة من
أمل.
لذا كانت نفس الشاعرة التواقة إلى العواطف والأحاسيس النبيلة تتخلل جميل القول عبر القصائد من قبيل الحب والوفاء والحلم والتوق إلى الحياة بمعناها الواسع، تقول الشاعرة:
رقصت على نبرات لواعجي
ورياحين الأمنيات
يا ليتها تغدو وطنا
وفي أحضانها
سأعشق الحياة
هكذا يمكن الاطمئنان إلى أن التجارب الشعرية العربية، وضمنها تجربة الشاعرة المغربية حياة نخلي، تنفتح على التيارات التجديدية المحلية والعالمية، لكن أبدا لا تشيح بوجهها عن التراكم الشعري الذي عرفته الإبداعية العربية، انطلاقا من القصيدة العمودية مرورا بقصيدة التفعلية وصولا إلى آخر الاجتراحات الشعرية ممثلة بقصيدة النثر والقصيدة الشذرية وقصيدة الهايكو، كما أنها تغترف من شتى الاتجاهات الأدبية المؤطرة بالتنظير الفلسفي من قبيل الرومانسية والرمزية والوجودية والحداثة وما بعد الحداثة. وفي كل ذلك غنى للتجربة الشعرية خصوصا والأدبية عموما.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى