لغة الجسد في أعمال التشكيلية السعودية نجوى قربان

محمد البندوري

يشكل تجسيد التقنيات المتنوعة، وتوظيف مفردات التشكيل الفطري المتحرر من كل القيود، أحد أبرز المكونات الحيوية في تشكيلات السعودية نجــــــوى قربان، فالأشكال التعبيرية الهادئة المسترخية الرزينة، وسط فضاء لوني ساخن، يؤشر إلى وجود حركة ممزوجة بالهدوء والصمت، أو برشفات تنغيمية هادئة.
وهي نتاج تجربة توحي برسائل بصرية معلقة بين الهدوء بنبض يمتح من ثقافة الأشكال الجسدية، حركياتها التقوسية وحركاتها الغريبة بأنماط تعبيرية مغايرة، متداخلة في ما بينها، وبين الحركة الصامتة بتدرجات لونية متباينة، تشير في عمقها إلى دلالات عميقة المعنى، بما يعيشه جزء من الكائن البشري من وضعيات مختلفة. وهي بذلك تدخل حتما في لغة الجسد أو لغة التعبير التشكيلي بالجسد، باعتبار أن خيار الحركة والهدوء هما المعادل المرئي للحالة الجسدية التي تشكل فيها منظومة التناقض في وحدة واحدة مصدر بعث للمادة التشكيلية.
وهو ما تستند إليه الفنانة نجوى في استلهاماتها الفنية، لتشكل النواة الأساسية في تعبيرها الفني، فالشكل الأنثوي هاجس أول، ومادة تشكيلية وموضوع، لكن ليس بمفرق عن اللون، وهو ما يحول المادة التشكيلية، وفق الاستطيقا إلى منحى جمالي تعبيري – وإن كان بأسلوب تقريري بسيط، ومفردات تشكيلية سهلة التناول- لكن باستعمالات تمتح من التكعيبية، وتستعير من التسطيح والسيريالية وغيرها. المفردات اللغوية التشكيلية، والمقومات البنائية، والأشكال الممنهجة التي تؤطر العمل الفني، وتكسبه قيمة جمالية وفنية. فالتنوع في الأساليب والتقنيات والجمع بين مختلف الأشكال التعبيرية بأسلوب نوعي، يعد اختراقا للفن التشكيلي المعاصر، وجرأة وتمردا على الجاهز. فالمادة الجسدية أيقون دال على عوالم متعددة، يفصح عنها الشكل الرمزي والعلامات اللونية، في نطاق صيغ موحدة من الانسجام بين مختلف العناصر المكونة لأعمالها، مع تقليص مجال الحجب، لتعبر بطرق شبه مباشرة، بتوظيف يغطي مجمل مساحات الفضاء. واستنادا إلى العمل النقدي، فإن ثمة سمة مهيمنة على هذا الأسلوب، وتتجسد في التقيد بما تحمله من توجه في عالم الأنثى، على أنه خاصية لا محيد عنها تخضعها لسلطة التصور، وهو ما يسقط الفنانة أحيانا في بعض الأساليب المتجاوزة، وهي أساليب وإن كانت تلامس حرية التعبير، فإن الاتجاهات التشكيلية المعاصرة رامت التعبير، إما باللون المباشر أو بالتلميح أو الإشارات والرموز والعلامات وغيرها من المفردات التشكيلية والآليات الفنية.. وعلى الرغم من ذلك فإن للفنانة نجوى قربان قدرة إبداعية كبيرة، وبلاغة فنية رائقة، واستعمالات تشكيلية غنية بالقيم الجمالية والتعبيرية، فهي تستوعب المادة التشكيلية، وتستطيع أن تبني عليها عمليات توظيفية تتيح لها إنتاج ما ترغبه من دلالات تكمن في دقة المنجز التشكيلي لديها، وفي سحرية التجسيد بطلاقة، حيث إن المبدعة نجوى تسحر المجال التجسيدي بالتعبير والرمزية الدالة. وهو ما يحيل إلى بلوغ التجديد بحرفية ودقة في الأداء. وتكمن سرية التطور والتجديد في أعمال الفنانة نجوى قربان، في استعمالاتها الذاتية لعناصر ومفردات جديدة تطبعها الحرية في التشكيل والتعبير، لتمنح أعمالها ميزات تشكيلية، وخاصيات تعبيرية دقيقة المعالم ومحددة المضامين بما يضمن لها عنصر التوليف بين عالمها الفني وعناصره الأساسية، والإحساس بالدفء بعيدا عن كل التمثلات المادية.
إن أعمال الفنانة نجوى قربان الإبداعية تظهر فيها ملامح التلقائية والعمل المقارب بين المادة والهواجس الداخلية، حتى تتبدى في جوهرها واضحة مباشرة دون تكلف ولا تصنع، وإن كانت في عمقها تحمل رمزية إيحائية دالة على خطابها المباشر، وهي في بعدها الدلالي تؤتث لثقافة التلقائية في التعبير، التي تمتح مقوماتها من الهواجس الداخلية، التي تعنى بها المرأة. وهي عوامل تخصب الطريق لدى الفنانة لتطوير عالم الإبداع، بتجسيد مطلق وحرية في التعبير ورمزية قائمة على فضاء تجسيدي، يستمد كينونته من تأصيل خاص بالفنانة ذاتها، وتعمد إلى صنع أسلوب مختص بها مرتبط بالواقع وحيثياته. وبذلك فهي تتخذ من هذا النسيج الإبداعي أداة لابتكار تدفقات لونية خاصة مغايرة للنمط الكائن، توظفها تدريجيا وفق رغباتها، ما يوحي بأحاسيس تلقي بظلالها على جملة من الجدليات تنسج من خلالها علاقات تحاورية بين مختلف العناصر والمفردات المشكلة لأعمالها لتيسر التفاعل مع الأشكال الغامضة، وتحرر أعمالها من كل القيود. وهو بعد واضح في منجز الفنانة نجوى تدل عليه فلسفتها في التعبير، وتنطق به الأشكال الأيقونية التي تؤصل لأسلوب يستجيب لضرورات العمل حتى يتفاعل مع مختلف المضامين والحمولات النفسية التي تجعل المادة التشكيلية حرة. وهذا في المجال النقدي يرسل انطباعا بأن الفنانة نجوى قربان تبلور في نسيج أعمالها نقاطا مركزية، وتنظيما لونيا دقيقا تلهب به الشكل في المعنى. إنه توظيف معاصر تؤسس به هويتها الفنية وأسلوبها الإبداعي المعاصر، الذي ينطق في عمقه بتعبير حر ومركز، بحرص شديد على ضخ هذه التجربة في أعمالها باعتبارها فنا متجددا تحقق به التنوع وتنتج به الإضافة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى