جمال ووجهين – رحاب أبو هوشر
الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
هل سمعت المرأة الفلسطينية في غزة، بحمى الجمال والتجميل التي تجتاح طيفا من النساء العربيات، وهل سعت لمحو أميتها إزاء المفعول السحري للسيليكون، في تغيير معالم الوجه والجسد، كي تصبح أكثر شبابا، وأكثر إثارة في عيون الرجال، فتحظى بالاعتراف بقيمتها الإنسانية في الوجود؟
المرأة الفلسطينية جميلة، ومثل كل نساء الأرض في عشقها للجمال، تمور بالأنوثة والرقة، ولطالما ابتدعت وما زالت كل ما يزيدها ألقا وجمالا، لكنها منذ أزيد من ستة وستين عاما، مسروقة من ذاتها الصغيرة، فداء لذاتها الأكبر في الوطن، وصارت في عهدتها مهمة اجتراح الحياة وحمايتها، والعناية بجمال وجهها، في الحرية والكرامة، عندما يهشمه الطغيان، وتدوس على ملامح كبريائه قدم المحتلين، ولتديم شعلة الصمود والبقاء، وتحفر في صخر الواقع بأظافرها، لحماية هويتها وهوية أبنائها.
غزة اليوم تحت العدوان الإسرائيلي الهمجي، وفي بيوتها المهدمة، تسقط النساء قبل الرجال، في معركة الظلم والضمير الإنساني الميت، وهن يلملمن أطفالهن من الأزقة والشوارع، ويخفينهم عن عيون القذائف العمياء، تود الواحدة منهن لو تشق صدرها، كي تهدئ رعبهم بين الضلوع. بأكفهن المتشققة البشرة، يغمرن ليل أطفالهن الحزين بالحنان، حتى يرحل الظلام. ومن وجوههن النظيفة من مساحيق التجميل، يسطع نور الإيمان بقدرهن في السهر على الصمود، كتفا بكتف مع الرجال. وهن اللواتي، في عذاب الحصار، يخلعن عنهن نعومة الصباحات، ويبتكرن من الفقر، أشكالا للعيش الغني.
لم تسمع المرأة “الغزية” بعمليات التجميل، وهي إن شاهدت بعض “برامج الواقع” حول الأهمية الجمالية والنفسية لإعادة إنتاج النساء لوجوههن وأجسادهن، وضبط القياسات والتقاطيع وفق معايير الصناعة الرائجة، تلفتت حولها وضحكت ساخرة، وأرسلت نظرها عبر النافذة نحو سمائها، التي لا تشبه سماء غيرها من النساء. كيف لامرأة فلسطينية عانت ظلم التشرد والنزوح، وتعيش في قطاع منكوب باحتلال وحشي، مثل سائر الأرض الفلسطينية المحتلة، تدبر بالاحتيال حياة محاصرة من كل الجهات. وما زالت فواجع عدوان سابق طرية في ذاكرتها وروحها، حتى وقعت وكل شعبها في خزان من الجحيم، قصفا جويا وبحريا وبريا، يسقط عليهم سقف السماء نارا، و”يدقون جدران الخزان” دون أن يسمعهم أحد! كيف للمنذورة لمناورة الشقاء ومطاردة الحياة، لغسل العيون من الدم والأشلاء، وتفقد الراحلين والمردومين، ومشاويرها زيارات للمقابر، أن تجد وقتا وقلبا متاحا، إن وجدت المال، لمجاراة هذه (الإنتصارات) الأنثوية، بالأحرى من أين لها ذلك الترف الذي يخفق فيه الخواء، كي تتحسس أعضاءها، صدرها إن كان صغيرا أو فائضا، أو مدى ملاءة شفاهها مثلا، فتسارع إلى إعادة الاعتبار لكيانها المهدور جماله، بكمية من “السيليكون” أو “البوتوكس”، لتطمئن إلى مطابقتها لمقاييس اختلقها رجال، يعبثون بأجساد النساء، يمتلكونها بعد أن احتلوا رؤوسهن وصادروا أرواحهن.
وخلف شاطئ غزة، في منزل بعيد، تعصف البرودة بروح امرأة، وتعشش عناكب في مسالك ذهنها، تهمس لها بالضآلة وهلامية الذات، تتوحد مع مرآتها، تتأمل تقاطيع وجهها، وتستعرض تضاريس جسدها، تضطرب أفكارها وتغزوها الشكوك التي تحاول إخمادها، رغم فرحها المفترض بما أجرته من تغييرات وتعديلات على شكلها، لا ترى هذه المرأة من نفسها إلا ما تعكسه المرآة، وتظل تكذب المرآة حتى لو كانت صادقة، يرعبها أن تحدق عميقا، كي لا ترى صورتها باهتة ممزقة، لا لن تنظر أبعد من سماكة مرآتها، حيث مسافة أمان القشرة تحمي الهشاشة والضعف. من ذا الذي سيعالج العطب المستوطن في داخلها، ومن سيداوي إحساسها المزمن بالمهانة، والقلق يستبد بها، ينهشها، وتظل تتساءل بلا شفاء أو طمأنينة إن أصبحت مطابقة حقا لمواصفات المرأة، القنبلة الأنثوية!
لا يكره الجمال إلا قبيح، وما يقترحه مروجو الجمال المصنع ليس إلا تقبيح للجمال، واستلاب للمرأة وتشييء لكينونتها الإنسانية، وفي هذا الاقتراح غير الجمالي، ترتهن المرأة لرغبات ذكورية، يمليها تجار يتربحون من هيمنتهم على وعي المرأة، لتبقى في وضعيتها التاريخية كموضوع للجنس، لا ذاتا إنسانية حرة. إنهم يعيدون صياغة مفردات عصر الجواري وثقافته، في قالب حديث معاصر وحسب.
هل كانت تعلم هذه المرأة التائهة، من ضيعت ملامحها دون أن تدري، ماذا كان يمكنها أن تكسب لو أنها حين كانت تنفق المبالغ الطائلة على تجميل شكلها، فكرت بإنفاق جزء بسيط من تلك المبالغ على تجميل عقلها وروحها؟
تحية إجلال إلى المرأة الفلسطينية في قطاع غزة، وهي تصوغ الجمال كفاحا وكبرياء وصمودا في تاريخ الحرية والإنسان.