«تأكل الطير من رأسه» لمصطفى زكي… أبطال محكومون بالفناء
هالة البدري
تأخذك قصص مصطفى زكى إلى عوالم حميمة، الطريق إليها موسد بلغة فصيحة واضحة وسلسة. تسرقك مما حولك بسرعة لتستغرق في أحداثها، بل لتصبح أنت نفسك قطعة من الفسيفساء التي تكون اللوحات المتتالية للقصص.
يجعلك المؤلف أحد المشاركين في حب زميلهم الراحل مبروك، الذي يبحث عن حلمه بالطيران من الشباك المفتوح، ليبتعد عن عالم لا يشبع أحلامه. ونتابع معه سقوط النيزك من السماء، في حصة الموسيقى وقد تتحقق أمانيننا إذا كنا أكثر شفافية وملائكية، وقد نتحول إلى فراشات في سماء الحجرة. تحلق حول بعضها ربما بفعل قدر من الخوف، وربما في كثير من الفرح. نخاف مع زملاء الفصل الخائفين من المدرس العملاق، نبلل معهم ثيابنا ونصدق قدرته على الفتك بنا، لكن الكاتب أيضاً استطاع أن يجعلنا نحلم بالانعتاق ونقاوم عصفه بنا، ونضع الخطط للهروب، ولكنه على الرغم من ذلك يتركنا مدركين أن استمرارنا في هذا الصراع قدر أبدى ربما لن نتخطاه أبداً.
مجموعة «تأكل الطير من رأسه» هي المجموعة القصصية الثانية للكاتب بعد مجموعته الأولى مشهد من ليل القاهرة، الصادرة عن دار العين في القاهرة عام 2010. وهى مجموعة لفتت الأنظار لمصطفى زكي الذي كان قد نشر بعض قصصه في عدد من الصحف. المؤلف هو من خريجي قسم الفلسفة في جامعة الإسكندرية عام 1980 وهو ما يفسر نزوعه إلى التساؤل حول المصير الإنساني وعلاقته بذاته وعلاقته بالمجموع.
تقع قصص «تأكل الطير من رأسة» بين قوسين: الأول هو المدخل أي رغبة ديدالوس في الخروج من المتاهة مع ابنه بالطيران، على الرغم من علمه بإن ابنه لن ينجو. والقوس الثاني هو الخروج ومنه نعلم أن الاقتراب من الشمس هو الخلاص الذي يعرفه إيكاروس ويبغيه. بين الخروج من المتاهه الذي يقرره الأب بالطيران بما يحمل من موت حتمي والخلاص الذي يعتمد على معرفة الحقيقة حتى لو أدت إلى الفناء الذي يقره الأب. تدور الشخصيات في متاهتها بحثاً عن خلاص ما.. بعضها يفلت من قدره، وبعضها لا يستطيع.
أبطال محكمون بالفناء متمردون، منهم من يعود إلى المتاهة نفسها، مؤملاً أن يجد الخلاص، وعلى الرغم من أنهم بلا ملامح تقريباً، يحمل بعضهم أسماء، ولكن لا يحمل بعضهم اسماً، وكلهم على الإطلاق واعون بالمأزق تماماً… يختلفون في قدرتهم على الدهشة أمام النتائج وحسب. وقد لاحظت أنهم يندهشون أمام التحولات التي تنم عن بارقة أمل، مثل التحول إلى فراشات في المجموعة الأولى، أو الهروب إلى عالم آخر مثل، قصة «مبروك» وقصة «اختفاء رجل وحيد»، يبحثون تحتهم بدهشة: «انتظرنا أن نراه أو أن نلمحه ممدداً أو محمولاً، لكنه لم يكن موجودا. كان قد اختفى تماما مخلفا عصا سواء مكسورة وبعض الأنين المتلاشي». أما النتائج المُرة المؤلمة فإنهم يتقبلونها بدهشة أقل، وكأنها أمر حتمي لا مفر منه، كما في قصة «خلوة»، والزوجة المنتظرة لقاء زوجها في السجن تمشي وراء الصول حين يغلق هو الباب من الداخل وتستلقي على الكنبة تغمض عينيها وهي تشعر بعضلات خدها الأيسر تتراقص بآلية تشبه تلك الآلية التي رأتها منذ قليل في وجه الزوج، أو مثل قصة «حظر» التي يدرك فيها الزوج نوع العلاقة بينه وبين الضابط، وكذلك في قصة «محاولات للخروج» الزوجة التي قررت أن تدخن رغم أنها تعرف نتيجة أن تقوم بهذا علناً «عرفتوا أن أنا أتضربت أكيد باين عليا» وأكملت أنها هي التي أخبرت زوجها».
الحلم
فى قصص زكي يلعب الحلم دوراً أساسياً في خلق حياة موازية يعيها بطلها أحياناً ولا يعيها في أحيان أخرى، لكنها تظل بالنسبة إليه مهربا حقيقيا من واقع مخيف. أحلام أبطاله معظمها تنتمي إلى الكوابيس التي تطارد صاحبها وتفتك به، حتى أنه في كل حلم ينتظر لحظة النهاية، في حياة إحدى الشخصيات يموت داخل الحلم ثم يصحو مرة أخرى، ليرى النعيق المقترب يحوم حول رأسه بل إن الطير بعد الصلب تأكل من رأسه.. الأحلام تتحقق أحياناً، تتحقق في كونها سجنا ينظر البطل من خلف قضبانه، والحلم أو الكابوس كثيرا ما يكون حلم يقظة لا يريد إلا الغياب.. غياب بالخمر، كما في «حانات النفس الكئيبة». غياب بالموت كما في «أحمد مبروك». غياب بالاندساس داخل الصليب في «الإغواء الأخير» لرجل عادي. لكنه في كابوس آخر يحقق أعلى درجات الرغبة في الحياة يقدم الصراع الذي يهوي بصاحبه، إذا ما تهاون لثانية واحدة إلى التفتت أو الغرق أو الارتطام بالصخور، وبطله الذي يقاوم رغم الآلم والشعور بالبرد والإرهاق الرهيب، يعيد التشبث كلما وصل إليه الطوفان، يسحب نفسا عميقا ويجدف نحو الظلام المبلل، إنها الرغبة العارمة في الحياة لا تتعلق بالطوف وحده، وإنما تستخدم كل ما هو موجود حتى لو كان مميتا، مثل المطر الذي يبلل الحافة والجبل الوعر.
مجموعة تستفز القارئ ليحلل مضمونها ويتعرف أكثر على الرابط بين شخصياتها، فعلى الرغم من أنه يبدو للوهله الأولى أن كلا منهم يدور في فلكه الخاص، حتى لو كانوا جميعا واقعين في المتاهة في انتظار الخلاص. العلاقة بين الشخصيات في المجموعة كلها تكون تبادلية أحياناً، أو علاقة خيانة، كما في حفل تنكري، أو الخطر، لكن ما يجمع بين الشخوص أكثر هو القناع الذي لا ينفك يلتصق بوجه الإنسان ولا يستطيع الفكاك من ملامحه في ظل مدينة متوحشة تطارد شخوصها بعنف.
هذه قصص شديدة التركيب، على الرغم من بساطة وسلاسة انتقالها من مشهد لآخر، لتؤدي دورا مهما في إشاعة مناخ من الغموض والتوحش والخوف في معظم الأحيان، وتدفع القارئ طوال الوقت للتساؤل عن المصير المبهم المفتوح امام معظم الشخوص. رغبة الكاتب في هدم النمط في الشخصيات والبحث عن نماذج أكثر حرية وأيضاً في تفكيك ما نعيشه وإعادة طرحه بشكل مغاير للبحث عن حلول جديدة وتساؤلات عن العلاقة مع السلطة العميقة التي تفرض وجودها على الشخوص سواء أكانوا من العسكر كما في خلوه أو كانوا من الأهل كما في ميكى أو الزوج كما في محاولات للخروج. لكنه في النهاية كان أكثر عمقاً للحياة.
قدم الكاتب بنية لترتيب القصص داخل المجموعة المقسمة إلى أربع مجموعات، بالإضافة إلى المدخل والمخرج: نوستالجيا، حكايات قديمة وخطر وحلول يجمع بينها خيط رفيع، بدأ بنوستالجيا التي تتحدث قصصها عن الطفولة المبكرة وحسنا فعل، لأنها طفولة تطمح إلى الانعتناق والنمو، ثم حكايات قديمة وهي أيضاً نوع من النوستالجيا، وهي حلقة الوصل التي تجعل الصراع في قمته وتتسم قصصها بالتصميم على المقاومة، حتى إذا دخل إلى الجزء الثالث الخطر يضعنا في مواجهة مباشرة مع السلطة فتتعدد رودود الأفعال وتتباين بين شخصية وأخرى. وفى النهاية تنقلنا إلى الجزء المسمى الحلول شخصيات القصص تتآكل بفضل الزمن تتآكل من الداخل، وهي تظن أن العالم هو الذي يتآكل في الخارج والرجل الذي يفقد خصيته، التقمص الأخير ورجل الغياب أو البقاء فوق رصيف مبتل..
اللغة
تمتاز لغة المجموعة بالثراء، وهناك قدرة عالية للكاتب على التشكيل اللغوي وعلى اتساع القاموس الذي يجعل من تلك الشخوص التي تواجه مصائر متشابهة متفرده في وصف ما تمر به.
(القدس العربي)