قراءة انثروبولوجية لحيوات العمال المهاجرين في الخليج : ضواحي النفط.. أحلام الهجرة والأساطير الجنسية
محمد تركي الربيعو
بين عامي 2007 و2008، ذهب عمرو وتوفيق – وهما صديقان من قرية نزلة الريس في مصر- الى دولة قطر للعمل كحراس أمن بعقد لمدة عامين. كلاهما من عائلة ريفية فقيرة نسبياً. تخرجا من التعليم العالي ولديهما طموحات عالية، لكن مؤهلاتهما لم تكف إلا لشغل وظائف قطاع عام متدنية الأجور في مصر. توفيق يبلغ من العمر 23، يحلم بالهجرة إلى أمريكا وأوروبا، لكن حاله كحال العديد من أبناء الطبقات الوسطى الدنيا أو الطبقات الفقيرة في مصر، ممن لا يمتلكون، ما دعته الأنثروبولوجية الهولندية أنوك دي كونينغ بـ«رأس المال الكوزموبوليتاني» الذي يعني مجموعة من المعايير والمخزونات المسيطرة كونيا على العالم، الأول- إتقان الإنكليزية مثلاً والتزود بأحدث الموضات والتكنولوجيات- بما يتيح لهم – مثل أبناء الطبقة الوسطى العليا في القاهرة- مجاراة المستويات العولمية، وشغل فضاءات العمل العابرة للقوميات. في الوقت ذاته كان توفيق بحاجة إلى توفير المال اللازم لعش الزوجية. هذا الواقع دفعه كما دفع آلاف الشباب المصريين، على مدار العقود الماضية إلى البحث عن عمل في بلد خليجي. وقد حصل بالفعل عبر وكالات مسؤولة عن توفير العمالة على وظيفة حارس أمن في الدوحة. وكذلك هو الأمر بالنسبة لصديقه عمرو الذي كان بحاجة لادخار المال لزواجه، وقد حصل هو أيضاً على عقد عمل كحارس أمن في أحد البنوك القطرية.
في هذه الأثناء قام الأنثروبولوجي الفنلندي صامولي شيلكه بزيارة كل من توفيق وعمرو، وكان هدفه من هذه الزيارة متابعة رحلة الإحباطات وأحلام الهجرة التي عاشها شيلكه مع توفيق ومجموعة من الشباب المصريين في منطقة شمال مصر الريفية في عام 2009- 2010، ولمعرفة كيف هو واقع توفيق وعمرو (عمالا مهاجرين) بالنسبة لشابين كانت أحلاهما تقتصر على مغادرة مصر للعيش في حياة من الحرية والرفاهية.
استند شيلكه في رحلته الإثنوغرافية هذه، من مصر إلى الدوحة، إلى قضاء معظم الرحلة التي عاشها في الدوحة بين العمال في شركة الأمن، وأيضاً من خلال تقاسم الإقامة والطعام مع هؤلاء العمال في مسكنهم الجماعي. وبدلاً من النظر إلى العمال كمحض قوة عمل مُستغلة وحسب، حاول شيلكه عبر كتابه «حين ينتهي النفط: الهجرة والأحلام في ضواحي الخليج» أن يروي حكاية التجربة الشخصية لهؤلاء المهاجرين المصريين، وبأسلوب أثنوغرافي أقرب ما يكون للكتابة الروائية، وهو أسلوب بتنا نلاحظه كثيراً في الكتابة الأثنوغرافية حول الشرق الأوسط.
في البداية، يرسم لنا شيلكه بأسلوب درامي الحياة في العمارة التي يعيش فيها توفيق. ففي الطابق الذي يعيش فيه كانت الحجرات الثلاث كلها مخصصة للمصريين. بينما في الطابق العلوي نعثر على حجرات للنيباليين، وحجرة واحدة لعمال من السودان. ويحتل عمال من تايلند الطابق السفلي. الحجرات كانت جميعاً متشابهة في تصميمها وازدحامها الشديد بالناس وانعدام النظافة. صحيح أن العمال كانوا يتعاملون تجاه بعضهم بعضا بالود والاحترام، كما أن وجود أبناء الجماعة الواحدة مع بعضهم بعضا كان يجعل الحياة محتملة، لكنه في الوقت نفسه كان يعني تشكيل جماعات متنافرة ومتشككة في بعضها بعضا، على خطوط إثنية ووطنية. لهذا كانت الحجرات في مساكن الشركة دائما مقسمة حسب الجنسية، وكان هذا التقسيم يشكل حالة من العنصرية بين العمال المصريين والآسيويين. هذه العنصرية أخذت تعبر عن نفسها من خلال حكايات وتمثلات ثقافية و«مطبخـية» عديدة. فمثلاً لم يكن توفيق وأصدقاؤه يأكلون طعام جنوب آسيا على الاطلاق (مع أنه حلال)، باستثناء شطائر الدجاج التي تباع بسعر زهيد.
عنصرية المهمشين- وفقا لتفسير شيلكه- لم تكن مجرد أثر جانبي عارض من أجل العمل، بل هي جزء لا يتجزأ من كيفية حكم بلدان الخليج. ففي الثمانينيات، كان العمال العرب في الخليج أكثر من أي مجموعة أخرى، لكن حين احتشد العمال الفلسطينيون لدعم العراق بعد احتلال العراق للكويت، تم طرد أغلبهم، وأصبحت السياسة المتبعة في دول الخليج هي تقليل عدد العمال العرب والجمع بين جماعات إثنية عديدة تتبادل العداوة. من هنا، فان عنصرية المهمشين هي جزء من «معمار السلطة» وفق تعبير شيلكه. اذ يتم نزع التسييس من المجتمع الخليجي بأسره. فالمهاجرون ولأنهم منقسمون انقسامات عميقة على خطوط الطبقة والعرق، فإن هذا الأمر يعني تفادي أي حركات مطلبية من قبل هذه المجموعات في المستقبل.
ولما لم يكن بوسع العمال القيام بأي خطوة جديدة، لكي يغيروا ظروفهم في ظل هذا الانقسام واحتمالات الرفد من العمل (أو الكنسلة وفق التعبير الخليجي)، فقد بذلوا قصارى جهدهم من أجل الالتفاف على الوضع، لجعل الحياة أكثر قابليةً للاحتمال، وكردٍ رمزي على الاستغلال الذي عليهم تحمله. من هنا ينقل لنا شيلكه الأحاديث التي تدور بين توفيق وعمرو وباقي العمال المصريين، وحتى الآسيويين حول أساليب الالتفاف هذه. ففي إحدى الجلسات عبر بعض العمال بشكل ممتعض وسلبي سلوك زميل لهم في السكن، حاول إتقان العمل والالتزام بالقوانين. في حين يصف عامل اخر هذا الالتفاف بالقول: «يمكن أن نموت من العمل لأجل الشركة ولن تعطينا مكافأة إضافية. لا فائدة من تقديم تضحيات للشركة. نحن نعمل بالفعل 12 ساعة في اليوم، على مدار 365 يوما في السنة، وفي هذا لا بد من الـ»خليول» التي تعني» كبر دماغك» أو ما علينا». فالنوم في العمل، وتجاذب أطراف الحديث، واللعب على الكمبيوتر، والقراءة قليلاً، أو سرقة النت من العمارات المجاورة، كلها أمور يعدونها ممتعة، لكونها تعد بمثابة طريقة في استرداد قدر من الكرامة وسداد بعض من الاستغلال الذي يتعرضون له.
هذه التكتيكات الصغيرة التي وصفها لنا شيلكه حول أساليب الالتفاف والتلاعب بالنظام العام من قبل العمال (الضعفاء) أشار اليها ميشيل دي سرتو في كتابه «ابتكار الحياة اليومية». فمن أجل فهم الواقع الاجتماعي وعلاقات السلطة – على حد تعبير دي سرتو- من الضروري الانتباه إلى التدابير متناهية الصغر الخاصة بأداء الأشياء وتكييف الظروف على يد الضعفاء. مع ذلك يرى شيلكه أن الظروف التي يعايشها العمال في مدن الخليج تلزمنا بقراءة دي سرتو بطريقة أكثر تشاؤماً. أو بالأحرى بطريقة تبعدنا كذلك عن تفسير كل شيء وكأنه مقاومة للسلطة، أو النظر للسلوكيات والأفعال اليومية ضمن ثنائية السلطة/ المقاومة. فالخدع والثغرات في العمل التكتيكي ليست في كل الحالات أعمال رفض أو تمرد، فالحق أنها قد تكون أحيانا جزءاً من النظام نفسه. فالشبكات الشخصية والمحاباة والاستثناءات والخدع ليس استثناءات على القاعدة، إنما هي – وفقاً لشيلكه- في القلب من نظام الحكم (الحوكمة) في الخليج وفي بلدان أخرى. القوي والضعيف على السواء يعتمدان على العمل التكتيكي، ولكن الضعيف من حيث التعريف نصيبه من القوة أقل، إذ لا يستطيع أن يستخدم العمل التكتكي بشكل يحسن من مكانته بشكل ثابت. من هنا تبدو الأعمال «الالتفافية» لا تتحدى النظام، إنما هي تجعله أنعم وقعاً.
أساطير جنسية داخل القصور
العيش «أعزب» معناه أن تعيش حياة اجتماعية أحادية الجنس، باستثناء التواصل الشحيح مع بعض الموظفات في البنك، وفي أماكن العمل الأخرى القريبة. هذا الظرف من التفرقة الطبقية الجندرية، مقترنا بثقافة الذكورية، حيث تكبت أو تخفى الأبعاد الإيروتيكية المحتملة للرجال الذين يعيشون معاً، تعني أن يتحدث الحراس دائماً عن النساء. كما أنهم – إلى حد بعيد- يعرفون موقفهم من خلال انتقاد الأخلاق الجنسية في الخليج. ورغم أن الحراس المصريين أغلبهم مسلمون وليست لديهم مشكلة في تعدد الزوجات والحجاب. لكنهم في أحاديثهم التي ينقلها شيلكه غالباً ما يجدون أخلاق القطريين الجنسية وعلاقاتهم الجندرية غريبة وأدنى درجة من أخلاقهم وعلاقاتهم الجندرية ذات «الطابع الرومانسي» على حد تعبير أحد أصدقاء توفيق، الذي يسهب في شرح هذه الفكرة باللهجة المصرية كالتالي: «هنا بيطبقوا الشريعة الإسلامية بالكامل. في مصر ده شي طبيعي مفيش مشكلة. لكن هنا موضوع الستات ده متشددين فيه جامد. والستات هنا سخنين كداً وعندهم رغبة كامدة (جامدة)، لكن الركالة (الرجالة) باردين، معندهمش ثقافة الرومانسية والكلام ده اللي عند المصريين».
لا يوافق شيلكه على هذه الحكايات والأساطير الإيروتيكية التي يتداولها هؤلاء الحراس عن سكان مدينة الدوحة، مع ذلك فهو يرد هذه الصورة «الذكورية المصرية المثقفة الرومانسية مقابل برودة الرجل الخليجي» إلى الطبيعة الجندرية والجنسية لنظام العمل في الخليج. فالرجال يعملون في وظائف، مثل وظيفة حارس الأمن لأنهم بحاجة لادخار نقود من أجل أسرهم. ومن أجل هذا، عليهم أن يعيشوا في حالة قهرية تكون أقل من الحياة الحقيقة، تبث الاضطراب في إحساسهم بالرجولة، وهي الرجولة المتوقع منهم إظهارها وإنشاؤها من خلال القدرة على كسب النقود والعودة بها إلى الوطن ومعهم مدخرات جيدة.
أحلام منكسرة:
عادة عندما يتحدث الشباب عن دوافعهم من الهجرة، يكون جمع المال من أهم هذه الدوافع، لكن هناك أيضا دوافع أخرى توازي هذا الدافع مثل، الرغبة في خوض حياة أكثر إثارة، وفي الاستمتاع بقدر أكبر من الحرية. غير أن ما يلفت نظر شيلكه في هذا الجانب، أن واقع الهجرة للعمل – كما في حال العمال المصريين- قد ضيق من الهوامش التخيلية للحرية والإثارة، لصالح سؤال الدخل والنفقات، وكم يمكن الادخار في الشهر، وهل يجب تمديد العقد لمدة إضافية. هنا نجد أن الأحلام التي كانت تراود العامل تنتمي إلى مكانين وزمانين مختلفين. لكن رغم هذه الانكسارات في الأحلام والمصاعب الشخصية لم يشعر الحراس بالراحة في الإفصاح عن هذه الأمور، لأنهم لا يريدون أن يقلق عليهم آباؤهم، ولأنهم يرغبون في أن يظهر عليهم النجاح أمام أقرانهم وأمام العرائس المحتملات، ولأن الناس لا يرغبون في تصديقهم، فالجزء الوحيد الذي يراه الناس في الوطن هو المهاجر العائد الى وطنه في إجازة، تترافق مع مظاهر من الانفاق، وتقديم الهدايا، والثياب الجميلة.
ضمور الأحلام السابقة، لا يعني وفقا لشيلكه أن المهاجرين لن يكتسبوا شيئاً مما وصفه عالم الأنثروبولوجيا الهندي أرغون أبادوراي بـ«القدرة على الطموح» وما وصفه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو بـ«رأس المال الاجتماعي». كما أنها تشجع أعدادا كبيرة من البشر على تركيز كل جهودهم على مشروعات بعينها. لذلك فإن قوة الخيال أو الأحلام الأولى تبقى قوى منتجة، مع أن إنتاجيتها قد تتحقق بأشكال متناقضة. فحلم الزواج والإنجاب عند كل من توفيق وعمرو وباقي الشباب، يحول نفسه من خلال العمل كحارس أمن إلى تجهيزات زواج مكلفة، وحفلات زفاف وأثاث وسلع معمرة؛ والأهم من ذلك أنه يحول نفسه إلى حيوات أسرية تعزز من مثل الأسرة الأبوية البطريركية، وتقوض منها في الوقــــت نفسه: تعزز بسبب اعتماد أسرة كاملة على راتب الذكر المهاجر بما يدعم قيم وصاية الذكر، وتقوضها لأن فلوس الهجرة تعطي الأبناء استقلالية أكبر تجاه الآباء وتزيد من احتمال معيشة الأزواج في شقة منفصلة. من هنا تغدو الهجرة في مرات عديدة عملية اجتماعية متناقضة.
(القدس العربي)