الخط المغربي… كتابة غارقة وأصوات حارقة

محمد البندوري

إن التفاعل مع مختلف الظواهر المؤثرة في الذهنية المغربية عن طريق الكتابة بالخط المغربي، تجاوز مهمته الأولى في نقل المعنى، إلى مهمات أخرى أضحت تغوص أكثر في عمق المادة الخطية، لتطرح مجموعة من القضايا والإشكالات الخاصة بالمجالات التداولية والبلاغية والخطابية، والخاص بعضها بالتنوع بمختلف عمليات التركيب، واعتماد أشكال الحروف، وبعضها الآخر بطرائق الوضع واختلافه بين المخطوط والآخر، وبين الصفحة والأخرى وبين السطر والآخر، والخاص كذلك بالضوابط المتعارف عليها عبر التاريخ المغربي.
وهي إشكالات ذات أهمية قصوى، كان من المفروض أن تتوج ببحوث علمية جادة؛ إلا أنها أغرقت الكتابة المغربية في مجموعة من ردود الأفعال، بين حلول موضوعية وحلول منطقية وحلول وظيفية وحلول مرحلية، وحلول أخرى ذاتية يحكمها الهوى، تنبع بين الحين والحين من أصوات حارقة، ما زاد من حدة إغراق الخط المغربي حاليا في مجموعة من التناقضات، ووضعه في مفارقات غريبة، جراء تغني كل بلسان حاله، والحال يحتاج إلى علم ومعرفة وبحث وتدقيق. ولا يمكن للأصوات الذاتية المهيمنة أن تظل تحرق في المكتسبات التي حققها الخط المغربي على مر التاريخ، خاصة أن كما هائلا من الجماليات قد تشكل بفعل الدور المحوري لتلك المكتسبات، ففعل فعله في جلب الاهتمام ببنية الأشكال الخطية المغربية، وفي إبداء الصورة البصـرية للخط المغربي بشتى أنواعه. تلك الصورة التي تحكمت في مختلف التصورات للمنظرين والخطاطين المغاربة، فكان لها تأثير واضح وبالغ الأهمية في النسيج الخطي المغربي، من حيث تطوره، ومن حيث عمليات التنوع، ومن حيث التأثير في الأفهام المغربية. ولا يمكن بأي شكل من الأشكال في الظرف الحالي أن يقفز من لا دراية له بأصول الخط المغربي على هذه المكتسبات ويجردها من محتواها الأساسي، بفعل ذاتي محض، والأمر يحتاج خبرة عالمة وممارسة حقة، وإلى علم ومعرفة وتعمق في خصوصيات الخط المغربي، وفي رصيده الثقافي والسياسي والاجتماعي والتاريخي، وفي رصيده الرمزي والجمالي والفني. فهناك حقائق ثابتة وهناك اجتهادات محمودة تبدت في صيغ مختلفة من البحث والتنقيب وإماطة اللثام عن العديد من الظواهر التي ترسخت بفعل الخط المغربي في الذهنية المغربية.
فإن لم يدرك البعض عددا من الحقائق التي تخص هذا الخط؛ فإننا نوقد بين الحين والحين نور الوعي بأهمية الموضوع، وبأهمية القضايا التي تحيط به، وبأهمية الإشكالات التي من المفروض أن تثير انتباه المثقفين، على الأقل من هذه الزاوية.
فلا يمكن للقضايا والمضامين التي ترسخت في المنظومة الخطية المغربية، وفي الذهنية المغربية، وتأثرت عبر التاريخ بإمكانيات هائلة ساهمت فيها كل المكونات الحضارية المغربية، وساهمت فيها كل الفئات المغربية من سلاطين ومثقفين وخطاطين ونساخين ومنظرين ونقاد ومسهمين وفلاسفة وشعراء.. أن تخضع في الظروف الآنية إلى صياغات ذاتية لا تأخذ المجالات العلمية والمعرفية والتاريخية، وكل الأسس التي بني عليها الخط المغربي بعين الاعتبار. وإلا ففيما تفيد فطنة المثقف المغربي والخطاط المغربي، إن لم ينتبه لهذه الأهمية وهذه الأولويات ويتفاعل مع بنية خطية بكاملها، ومع الخطاب المرتبط بها، وبالتحولات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والفنية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى