التأبين السوري في رواية سومر شحادة

نبيل سليمان

فازت رواية سومر شحادة «حقول الذرة» بجائزة الطيب صالح السودانية لعام 2017. والرواية هي الأولى لصاحبها، وقد جعلت اللاتعيين استراتيجيتها السردية، شأن كثير من الروايات التي لا تعين المكان أو الزمان أو كليهما، إما نشداناً لِمَرَاحٍ بلا حدود، أو طلباً للتقية، أو للأمرين معاً. بيد أن «حقول الذرة» ترمي بعدَ لأي بنثار يغلّب الإشارة إلى الزلزال السوري، كما سنرى.
تتنضد هذه الرواية في فصول الأخيلة – تأبين البلاد الخائفة – الهباب. وتبدأ بما تنتهي به من كتابة شخصيتها المحورية ملهم في عزلته للرواية، وقد صارت البلاد أطلالاً، وكبر الجميع بشكل محزن، وسلب الأعمارَ الخوفُ من المستقبل. ويبدو ملهم وهو يكتب عن الشخصيات الأخرى من الرواية، في حاجة إلى الشفاء من الأخيلة، والوصول السلس إلى الانتحار، بعدما أخفقت محاولاته العديدة.
في الفصل الأخير، يخرج ملهم من تجربة الكتابة حراً من الأخيلة التي أرقته، ويغادر عزلته إلى عالم الخراب بعد سنتين ونصف من الزلزال في ما تسميه الرواية «البلد الوحيد». ولم يكن ملهم راغباً في رؤية صديقته لمى، بعدما حررته الكتابة منها. لكن لمى تحضر محجبة، وتعلل تحجبها بأن الحركة في المدينة التي امتلأت بالعيون، أصبحت بالنقاب أكثر حرية – هي إذاً منقبة؟ وبات بوسعها أن تراقبـ(ـهم)، بينما يحتارون في هوية المنقبة.
وبينما تَعِد لمى بانتهاء الحرب وعودة الدنيا جميلة، وبينما صارت وملهم أجوفين «مثل بلاد خاوية على عروشها»، يغتصبها وهو جاهل بأنها حامل منه، في مشهدية قاسية مرسومة بحِرَفِية عالية. وبعد خروجها من المستشفى وقد أجهضت، تسافر، فتتصل نهاية الرواية بالبداية التي تظهر فيها لمى عازمةً على الهجرة، واصمةً ملهم الذي يرفض الهجرة بأنه مسكون بالخوف، ويقاوم فكرة الخيانة بالمزيد من الخوف، وبأنه يسكن في اللغة، بينما يتعلل هو بمسؤوليته عما يحدث، وبعجزه عن الهرب من نفسه إلى أي مكان. وإذا كان في البداية قد شعر بأنه ما عاد ملك نفسه، وبأنه تُرِك ليكتب شهادته عن الموت، فهو في النهاية بدا غير مكترث حتى بمصير الرواية التي كتبها. وكما في أنحاء الرواية، ينظّر في النهاية: فالرواية واقع متخيّل يحمل نبوءة، ويدعي أنه وقف على مسافة واحدة من شخصيات روايته، وسوى ذلك من لعبة الميتارواية.
تصف الرواية فضاءها بأنه بلد الهزائم غير المعلنة، بلد المهجرين والجياع، بلد الانتكاسات والقتل والأحقاد والثارات، بلد دورات العنف المتتالية، بلد الجوع والجهل والقهر والتكفير وقطْع الأعضاء التناسلية، بلد صناعة المسابح من حلمات الأثداء، بلد سبي الكرامات للأحياء والأموات. ومن موقع إلى آخر في الرواية، تقوم خرائط الكراهية وجغرافيا الخوف وحدود الدم. ويحكم السارد على البلاد التي لا تطلب أبناءها إلا للموت بأنها بلاد ميتة، كما يتحدث عن الخواء الأخلاقي – ملهم بدوره سيتحدث عن الخواء العقلي – الذي جعل الناس يجدون جلاداً في الضحية وضحية في الجلاد، فصار القاتل مخلّصاً ومنقذاً، والضحية لعنةً وسبباً للبلاء. وحين تحدد الرواية زمنها، تكتفي بالصفة لتعين الموصوف، فهو زمن الأقفاص المتنقلة، زمن التحولات والمستنقعات، زمن التوابيت المحمولة على الأكتاف، زمن الشوارع والدواليب المشتعلة، زمن الطواغيت والبطش المتجدد والموت الرخيص.
لزلزال البلد المجهول المعلوم، في الزمن السائب المحدد، توسلت رواية «حقول الذرة» قنوات سردية شتى، منها تقـــرير لمى عن بداية الحراك، وهو الذي ربـما كانت الرواية لن تخسر شيئاً لو حُذِف منها. وقد احتج ملهم على ما في التقرير من انتصار لمى «لمن أغرقنا في الوحــل حتى هذا العمق الكارثي». ومن أهم ما جـــاء هنا أن الشاب العشريني في «هذا البـــلد» ينظر إلى الحياة وكأنه خارج منها، لكأن المستقبل وراءه. وفي مذكرات ملهم قناة سردية أخرى تساهم في تغطية الأحداث وفي التنظير. ومن ذلك أن ملهم يكتب أن طاقة الحقد أعلى رصيداً في تاريـــخ البشرية من طاقة الحب، باعتبار الحـــقد دافعاً للانتقام من ماض كامل، لا مـــن شخص ولا فكرة ولا طائفة. أما البلد فهو «ليس لنا، بل لأكثر أبنائه شراسة وأسقطهم أخلاقاً». ويكتب ملهم أيضاً أن الوقت قد حان ليتعلم هو من «اللاشيء» الذين حركوه بعمق في الحارة الشعبية، وأن عليــــنا الثورة، والثورة تتكفل بالباقي. وملهـــم الأستاذ الجامعي، يمقت الجامعة، لأنه لا يمكن التفريق بينها كصرح تعليمي وكفرع أمني نشيط «كما لا يمكن التفريق بين الوطن والسجن الكبير».
إلى التقرير الصحافي والمذكرات، تضاف مقالات موفق اليساري (معتقل سابقاً، وصاحب مكتبة، وصديق ملهم). وقد حصل إبان الزلزال على رخصة مجلة إعلانية محلية من صفحة واحدة، فاقترح كتابة صفحة من دون اسم الكاتب، توزع مع المجلة. وكان له المقال الأول عن انقسام النخب بين أن يعني الانتماء للوطن، فقط، الانتماء للثورة، وبين أن يكون ختماً رسمياً للأفرع الأمنية. وموفق، كما يبدو في حواراته مع ملهم وعدي ولمى… وفي مقالاته، راغب في دفن السلطة والخروج في جنازتها، لكنه مع الإفادة من الإصلاحات. وهو يلح على أن على الثورة أن تحوي الانتماءات كلها أو تكسرها، لا أن تكون انتماءً جديداً. لكن ما حصل هو إعادة المترددين والخائفين إلى انتماءاتهم الأضيق ضد الهدف المتوقع للثورة، وهو دولة المواطنة وسيادة القانون. ومن «فكرية» الرواية ما يفكر فيه موفق من أن على الثورة الابتعاد عن الانتقام الشخصي، بل من المنظومة. كذلك هي صعوبة التسليم لإدارة الرعاع، وصعوبة دفع القذارة بالقذارة، وعدم كفاية إسقاط السلطة كشرط لنيل الحرية، وتحديد المعركة بأنها معركة أخلاقية، ومعركة بناء وعي، أولاً.
وعن الطائفية كتب موفق أننا «نولد وطوائفنا مكتوبة علينا مثل قدر أعمى»، وأن مشكلة النزاعات الطائفية، أو التي تأخذ أبعاداً طائفية، أو التي يمكن تأويلها بشكل طائفي، أنها تدفع الجميع إلى الاحتماء بالطائفة، وتجعلهم طائفيين بشكل أو آخر، حتى لو على حساب الهوية الوطنية، وتجعل آخرين متورطين في القتل حتى لو لم يحملوا سلاحاً، لكنهم تعاطفوا مع القتلة، وانشغلوا بالتبرير لكونهم ينتمون لطوائفهم. وبذا، نصبح أمام مجتمع متورط بالكامل في إفناء نفسه من تلقاء نفسه، وتتشكل آلية التدمير الذاتي. وحين يسأل موفق الساردَ الملتبسَ دائماً بملهم وبالكاتب، عمن بدأ بالعنف، يرى السارد أن السؤال سيقسم البلد إلى انتماءين بالمعنى الجنائزي للكلمة. وفي حوار بين موفق وملهم، وإذ يقول الأول إن السلاح يفرق ما استطاعت الثورة جمعه، يؤكد ملهم أن الثورة تتطلب حمل السلاح قبل أن يجيء «سوانا» ويملأ الفراغ. لكن موفق يرى أن ملهم بذلك يدفع إلى الساحة التي تريدها السلطة، ويخاطبه: «أنت مستعجل على السلطة، وعديم السلطة أكثر شناعة من عديم المال» ويعلن موفق: «هذه ليست ثورتي بعد الآن».
لملهم الذي ستخبر لمى أخيراً أنه علوي، وللسارد، خطاب آخر، منه أن الفقراء منتمون للثورة حتى لو لم يعوا ذلك، أو رفضها وعيهم. ويصير الخطاب أحياناً حِكَماً وشعارات وأوامر ونواهيَ مثل: «لا تسمع كلام الخائف بل ساعده على أن يتحرر من خوفه». والحق أن التنظير في هذا الخطاب يتناول اللغة والكتابة والثورة والحب والجنس والمثقف. ومن ذلك مقالة ملهم التي تبرر جهل الثوار، فالجهلة هم الذين يدفعون التاريخ في الطريق الصحيح، مهما بلغت كوارث اختباراتهم، وعلى الجهلة اجتراح التغيير بأنفسهم، عوضاً عن قولبتهم في قوالب أثبت فشلها. والجاهل حر من الحسابات، والحر يدرك عظمة القيم النبيلة، وأولها حق الحرية للجميع، حتى للطغاة متى ما أدركوا عجز سطوتهم. ويطلق ملهم حكمة الحمار الذي لا يسقط في الحفرة مرتين، فهو الذي سيقود صاحبه. أما مثقف السلطة فهو نسخة مشابهة لها، يوهم بالحياد، وهو ازدواجي الرؤية وابن حرام. والخلاصة أن الناس قد قفزوا، وعلينا أن نقفز خلفهم، وينبغي الغوص حيث يُصنع الحدث، عوضاً عن التشكيك في حق الثورة بالتجريب.
لا يخفى الصراع بين الفكرية وتسريدها في الرواية. ولئن نتأت أحياناً القنوات السردية جراء ذلك، فالغلبة غالباً هي للفن، وليس للمفكر أو للخطيب. وهذا ما تعاضده الأحداث الكبرى والصغرى، الشخصية والعامة، بينما هي تتجسّد في مشهديات بديعة، وبالغة القسوة غالباً: المظاهرة التي يصف ملهم من فرقها من الناس بالأرانب الخائفة، في بداية الحراك. كذلك لا مبالاة طلاب الجامعة في البداية أيضاً، مما جعل ملهم يصيح بهم «أي خنوع رضعتموه»، إلى ما تصاعد من مشاهد القمع في الجامعة، وبخاصة إلجاء ملهم للفتاة المجهولة التي سيغدو اختفاؤها وظهورها إيقاعاً ولغزاً محفزاً، إلى المظاهرة التي خرجت من الجامع والهتاف ضد الطوائف… ومن الطفولة يحضر الصراع بين ملهم وياسين من أجل الطفلة لمى، في القرية التي سيعود إليها ملهم بعدما استفحلت العسكرة، واعتقل موفق، واعتقل عدي ابن اللواء والمترجّح بين هذا النسب السلطوي وبين الحراك. وفي القرية تأتي قصة ياسين (السني) الذي سافر سنوات خارج البلد الوحيد – كما تسمي الرواية بلدها/ دولتها – ولبس لبوس الدين، وجمع حوله المريدين، واعتدى على معتقدات الآخرين فطرده أبوه. وفي الجبال، حيث انضم كثيرون إلى الثورة في البداية وغابت الدولة، صار لياسين جيشه الذي غزا به القرية، بينما كان ملهم قد أيس من المدينة ومضى إلى القرية، ساعياً إلى أن يعيد إلى المقاتلين بصيرتهم. وفي هذه النهاية التي سيغزو بها ياسين القرية، يشخص ملهم التحالف غير المكشوف بين ما يسميه بحثالة السلطة وحثالة الثوار، ويرى أن الثورة والسلطة من مدرسة القسوة والنتانة نفسها، بينما يملأ بائعو الأوطان الشاشات وقد هرولوا إلى المنافي، وتسولوا على الوطن.
بالخـــراب والهباب تنتهي الرواية وهـــي تتشكل كخطوط لحنية، فإذا لكل من ملهـــــم وموفق ولمى وياسين وعدي وغالية و… من شخصيات الرواية، خطه اللحني، صوته، على رغم أن المستوى اللغوي الواحد داهم أحياناً تعدد الأصوات. وبهذه التعددية، وبالمشهدية، بخاصة، بهذا التأبين الجنائزي، تعلن الرواية المميزة «حقول الذرة» عن روائي مميز.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى