هيا صالح تقرأ إحدى وثلاثين رواية عربية

محمد الحمامصي
ضم هذا الكتاب “المسافة صفر.. اشتباكات الرواية والحياة” للكاتبة والأديبة الأردنية هيا صالح إحدى وثلاثين قراءة نقدية لنصوص روائية عربية لروائيين من مختلف الأجيال، وتمّ التعامل مع كلٍّ منها بوصفه مادة جمالية تجترح أسئلتها وتتفرّد في سماتها عن سواها. منها: “القطّ الذي علّمني الطيران” لهاشم غرايبة، “ملكوت طفلة الرَّب” لإبراهيم الكوني، “خضراء كالمستنقعات” لهاني الراهب، “الخطوات” لعزت الغزاوي، “ظلّ الشمس” لطالب الرفاعي، “حيث لا تسقط الأمطار” لأمجد ناصر، “الجنقو مسامير الأرض” لعبدالعزيز بركة ساكن، “زجاج الوقت” لهدية حسين، “استعراض البابلية” لعاطف سليمان، “تاء الخجل” لفضيلة الفاروق، “فخاخ الرائحة” ليوسف المحيميد، “موت” لرشيد بوطيب، “الخشت” لمحمد بن سيف الرّحبي، “سفربرلك ودروب القفر” لسليمان القوابعة، “لم يُسْتَدَلّ عليه” لميس العثمان، “قميص وردي فارغ” لنورا أمين، و”عذراء ووليّ وساحر” لسارة الجروان الكعبي.

وقد توخت الكاتبة في كتابها الصادر عن دار الآن ناشرون وموزعون لَمُّ شملِ هذه المقالات معاً، تلمُّس الدّرب الذي اختطّته الرواية العربية لنفسها كاشفةً عن قواسم مشتركة في ما أُنتج في إطارها، دون ادّعاء جلاء صورتها بأبعادها المتعدّدة.

وحسْب هذه المحاولة أن تضيءَ مواضعَ في الصورة البانورامية للمدونة الروائية العربية خلال العقدين الأخيرين، حيث انصبّ اهتمام القارئ والناقد معاً عليها، وخُصصت لها أهم الجوائز الأدبية وأرفعها، وتهافتَ عليها الناشرون، ومُنحت الحيّز الأوسع في معارض الكتب.

وقالت “إنّ الصّورة المجبولة بالكلمات تمثل انعكاساً لمجريات الحياة التي هي الينبوع الذي يستمدّ منه السردُ – وبخاصة الرواية – نسغَهُ، ويشكل من خامته وطينتِه عوالِمَه الثريّة، إذ يطوّع الكاتبُ المادةَ الخام ويعيد تشكيلها وفق رؤيته الجمالية وأسلوبه الخاصّ، وهو بذلك يخلق عالَماً من الورق موازياً لعالَم الواقع، وكلٌّ من هذين العالَمين يؤثّر في الآخر ويتأثّر به ويتفاعل معه، بما يجعلهما شديدَي الصّلة بعضهما ببعض، وكأنما الواقع يُنتج نصاً ينتظر أن يُسْكَب على الورق، كما تتشكّلُ على الورق حياةٌ تلامس الواقع وتسعى للتّحقُّق من خلاله.

ورأت صالح في مقدمتها أن المقالات تؤشر على ما اتّجهت إليه الرواية العربية على صعيد الأسلوب، من خلخلةٍ للتتابُع الطبيعي للزَّمن عبر الاسترجاعات والاستباقات، وعنايةٍ أقلّ بتفاصيل المكان، واستخدام التكنيك السينمائي والتقطيع الدرامي، واللجوء إلى المونولوج الداخلي وتيار الوعي. كما بدأت الرواية العربية تشهد تحوّلاً بلغَ حَدَّ الانقلاب الجذريّ في صورة الذات، فبدلاً من أن تكون الذاتُ الجمعيّةُ المتشكّلةُ من أصداءِ الذوات الفردية المنسكبة فيها، هي المركزُ، صارت الذّواتُ التي تمتلك كلٌّ منها رؤاها وتصوّراتها وتطلّعاتها الخاصّة، هي المحور الذي تتشكّل الذاتُ الجمعية من تفاعُل مكوّناته وأصداء اشتباكاتها.

وقالت أن هذا ما استتبعَ تغييراً في بنى السرد، إذ اختفى “الراوي العليم” أو كاد، وهو الراوي الذي ظلّ إلى وقتٍ قريب يقبض على الأحداث، يتنبّأ بها ويحلّلها ويتدخَّل في شارداتها ووارداتها.. وشاع بدلاً منه ضمير المتكلِّم، الذي يمكّن الّراوي من تقديم منظور ذاتي يرصد انعكاسات الخارج على داخل الشخصية. إلى جانب ذلك، برزت ظاهرة الجمع بين أكثر من ضمير سرديّ، أو اعتماد عدد من الرواة في النَّص الواحد، يرصد كلٌّ منهم الأحداث من وجهة نظره، بما يتيح للقارئ إطلالةً ضافية على الأحداث من زوايا مختلفة، والانحياز من ثمّ لوجهة النظر التي يرى أنها تعبّر عنه، بما يجعله شريكاً فاعلاً في إنتاج النص، أو إعادة إنتاجه بحسب ما ترى إحدى نظريات التلقّي.

وأضافت صالح أنه “على وقْع التغيير الذي أصاب الأسلوب والبنية، تغيّرت طبيعة تناول الموضوعات وطريقة معالجتها. إذ تكشف المقالات في هذا الكتاب عن انشغالات الرواية العربية في الرَّاهن، وعن أسئلتها الكبرى التي تتصدّرها موضوعة الحرب بلا منازع، بنتائجها وتداعياتها الكارثية على الجماعة، وقبل ذلك، على الفرد الذي باتَتْ ذاتُه تعاني من الشروخات والتصدّعات، وفقدَ قدرته على الانخراط في الحراك الاجتماعي، أو الانفتاح على محيطه، وسيطرَ عليه الإحساس بالاغتراب والعزلة والتخبّط وفقدان البوصلة. وقد ظهرت تجلّيات ثيمة الحرب في الأعمال المتناوَلة، بالمزج بين الواقعيّ الذي يمثّل مرحلة الضعف والخذلان، وبين الأسطوريّ الذي يحيل البطلَ أحياناً إلى صانعٍ للمعجزات توقاً إلى قلْبِ معادلة الواقع رأساً على عقب، وتحقيق التغيير المنشود.

وأشارت على صعيد آخر، تُظهِرُ الأعمالُ المدروسة إعلاءً من شأن الفرد، وانتصاراً للذّات وانحيازاً لصوتها الذي غابَ في السابق لصالح المجموع، إذ صار متاحاً لهذه الذات ـ الفردية – أن تسأل وتشكّ وتنتقد وتفعّل وجودها وتؤكد إنسانيتها، وتواجه في الوقت نفسه واقعاً مثخَناً بالهزائم والخسارات، وتتصدَّى لقيمِ الاستهلاك والتبعية التي تسِمُ عصرَنا.

وأكدت أن الرواية العربية قطعت أشواطاً كبيرة في مسيرتها، وأفرزت – وما تزال – أصواتاً مهمة ينبغي التوقُّف عندها ومعاينتها.. وهو ما يحاوِلُه هذا الكتاب في درْسِهِ تجاربَ تطرق أبواب المحظورات، وتفضحُ المسكوت عنه، وتحرّك الراكدَ في مجتمعاتنا، وتتصدّى لما غلّفَ العقلَ العربي من جمودٍ وتبعية.

ولفتت صالح إلى أن هذه المقالات كُتبت استجابةً للأثر المتحصّل بعد فعل القراءة، كلٍّ على حدة وفي زمنها، من دون خضوعٍ لبرنامجٍ قراءةٍ مُعَدّ مسبقاً، وبمنأى عن أيّ خططٍ مدروسة في هذا السياق. ولعلّ هذا يفسّر حضوراً لتجارب روائية وغياباً لأخرى في البلد الواحد، مثلما يفسّر التركيزَ على نتاجٍ روائي في بلدانٍ عربية بعينها أكثر من سواها، كما يفسّر أيضاً التباينَ في المستوى الفنّي للتجارب التي جرى تناولها، والتفاوت في الدّربة وخبرة الكتابة بين روائيٍ وآخَر.

وأشادت صالح في قراءتها لرواية “الخطوات” لعزت الغزاوي حيث يصوّر الكاتب الفلسطيني الراحل الكفاح المستميت الذي خاضه الشعب في فلسطين والجنوب اللبناني المحتل ضد العدو الإسرائيلي، حيث ينبثق مركز الأحداث في الرواية من قرية “الجافنة”، ثم يمتد الحدث ليغطي فاجعة العرب في نكبة 1948، وكان الفلسطينيون أول المتلقين لهذه الضربة، حيث أُجبروا على ترك أرضهم والنزوح، لتصبح العودة إلى الوطن حلماً صعب التحقُّق.

ويستمر تشعب الأحداث ليطال الهزائم المتلاحقة للعرب التي أدت إلى سقوط معظم الأراضي الواحدة تلو الأخرى تحت نير الاحتلال. إذن فالزمان رغم محدوديته الوقتية، خصبٌ يمتد امتداد الأرض المضرجة بالدماء ويرتبط بالمكان؛ “الجافنة” التي تحدث الكاتب عن أشجارها، ونسائها، وأرضها المعطاءة، وعلاقتها بـ “عارف اليوسفي” وعلاقته بها. شخصيات قلقة، متوترة، تحاول أن تحكي من موقعها الخاص الظروف والدوافع التي قادتها إلى طلب خلاصها الشخصي والوطني لتكتشف في النهاية أنها إنما كانت تهرب من أزماتها الشخصية والوطنية إلى أزمات أشد تعقيداً.

وفي “الخطوات” ليس ثمة راوٍ واحد، وإنما عدد من الرواة، كل يروي قصته من زاويته الخاصة كاشفاً عن انفعالاته ومعبراً عن مشاعره بصدقية عالية، ومن الشخصيات المحورية في الرواية “عارف اليوسفي” الذي يحاول الآن ترتيب فصول روايته “رواية الأمكنة” بعد أن تتقاسمه حالتا الموت والحياة، حين أُوْهِمت أمه “زكية السلطان” بأنه استُشهد في عملية فدائية، وتم تشويه الجثة مما جعل التعرف عليها أمراً صعباً، ليكون لـ “اليوسفي” بذلك اسمان؛ أحدهما وضع على قبره في مقبرة “الجافنة”، والآخر حمله معه باحثاً عن خلاصه الوطني، متنقلاً بين بيسان، وصفد، ودير الزيتون، وعمان، وبيروت، وباريس، وتونس، وبودابست، ليستقر به المقام أخيراً في أوراسيا؛ هناك حيث يفقد مشروعه النضالي، ليقتات على ذاكرة النكبة واللجوء.

وحول السردٌ المتعدّد المستويات في رواية “زجاج الوقت” لهدية حسين، قالت صالح إن “الروائية العراقية هدية حسين تقدم المعمارَ الفني لروايتها على ثلاثة مستويات سردية؛ السرد الحقيقي الذي تتضمنه رواية “زجاج الوقت»؛ والثاني يجده القارئ في رواية بطلة رواية “زجاج الوقت” (العمة حسيبة، التي اختارت لها المؤلفة أن تكون روائية أيضاً)؛ والثالث يُظهر اشتباك أبطال “زجاج الوقت” مع أبطال رواية بطلة “زجاج الوقت”.

إزاء ذلك، تمسك الروائية بخيوط روايتها ورواية بطلتها معاً، عامدةً أحياناً إلى إزالة الفروق بين المستويات الروائية آنفة الذكر، وإلغاء البعد الزَّمني، بحيث يتبادل أبطالُ الرواية وأبطال رواية البطلة مواقعهم، وتتلاشى الحواجز المكانية فيما بينهم، ولكن ذلك كله يتم على الورق، حَسْب. إذ سرعان ما يكتشف القارئ أن هذا الاشتباك بين أبطال رواية “زجاج الوقت”، وأبطال رواية البطلة يُقلّص حد التلاشي المسافة بين الحقيقي والخيالي، الواقعي والعجائبي، الحاضر والماضي، حيث يستحيل الماضي إلى حاضر قوي الفعل، وكأنما الزّمن لا بداية له أو نهاية.

وأضافت “ساعد على إبراز الفكرة السابقة في الرواية، دون انسياح السرد ودخوله لجّة الغموض والتعمية، ذلك التناوب للسرد بضمير المتكلم في الرواية بين (العمة – الروائية/حسيبة فيصل)، وابنة أخيها (حنان/ حذام) التي تكشف في المقاطع الأولى من الرواية عن نية عمتها الروائية كتابة رواية، ليتغيّر بعدها إيقاع حياة العمة، التي تقع في حب “يونس”، وهو أحد أبطال روايتها والذي يخرج من إطار الزمن، إذ يبدو عاشقاً قادماً من الماضي، جاء يبحث عن الفتاة التي أحبّها في ذلك الزمن واسمها كما يوضح هو “هداية” (ليس صدفة أن يكون الاسم شبيهاً باسم الروائية إمعاناً في تقليص المسافة الفاصلة بين الروائية وبين بطلة روايتها). ويتم استثمار “يونس” الذي يجد محبوبته “هداية” (وهي إحدى مرايا الروائية، أو بطلة روايتها؛ الروائية أيضاً)، لتأكيد فرضية أن الإنسان عاش حيوات متعددة في أزمان مختلفة، وأن حياته على الأرض إحدى هذه الحيوات. إن الزمن هنا يذهب باتجاه المطلق، رافضاً أن يقتصر مفهومه على إحساسنا (الأرضي) به. لقد وجد الإنسان بروحه منذ الأزل، ثم تجسد بهيئته الجسمانية حال نزوله إلى الأرض، وسيفنى جسده بعد الموت، فيما تظل الروح أزلية خالدة.

لنقرأ المقطع الحواري التالي بين بطلة رواية البطلة “هداية” وبين “يونس”:

“قال بثقة كأنه يقرأ أفكاري:

ـ أنت السيدة هداية.

قلت: وعساني أهديك السبيل.

لمحتُ ابتسامة تطوف على وجهه حين قال:

ـ إنه أمر غريب أن لا تتعرفي عليّ”.

وحين تعود “هداية” (بطلة رواية البطلة) إلى الوراء، تستعيدُ علاقتها بـ “يونس” الذي أحبّته في زمن بعيد، وتستذكر كيف تدخل أخوها ليحرمها من الزواج منه، مجبراً إياها على الزواج من آخر لا تحمل أيّ عاطفة تجاهه، لذا فقد وسمَ الانتقامُ علاقتها بأخيها. إلى هنا يظل السرد يتدفق من خلال الروي بضمير المتكلم الذي يجيء على لسان بطلة الرواية “حسيبة” حول روايتها التي شرعت بكتابة أحداثها.

ثم يعود السـرد إلى عالم رواية “زجاج الوقت” بتولّي “حنان” زمام الروي بضمير الأنا، كاشفةً من خلال حديثها مع عمتها الروائية بعضَ تفاصيل الرواية التي ستكتبها العمة، وأنها ستستمدّ أحداثها وأبطالها من عالمها/ الذي هو عالم “زجاج الوقت”، لتخرج شخصيات “زجاج الوقت” من قيدها الورقي متحولةً إلى شخصيات حيّة في محيط بطلة رواية البطلة، التي تعمل من خلال روايتها على إعادة هذه الشخصيات مرّة أخرى إلى عالمها الورقي، وبالمقابل تنتقل الشخصيات من رواية البطلة لتمارس حياتها وأدوارها في رواية “زجاج الوقت”.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى