أفلام يوسف شاهين بين ثورة يوليو وهزيمة يونيو: من غياب الوعي إلى فقدانه

تمر هذه الأيام الذكرى الـ65 على ثورة يوليو/تموز، هذه الثورة التي ارتبطت بتاريخ آخر لا ينفصل عنها، وكأنه نتيجة مباشرة لها ولأحلامها التي أضاعها مَن قاموا بها، لا يأتي ذكر 23 يوليو/تموز 1952 إلا ويلحقه 5 يونيو/حزيران 1967. وبما أن الأمر بأكمله والمرحلة أصبحت في ذمة التاريخ، إلا أن النتائج لم تزل تحصد وعي الشعب المصري بلا رحمة، بداية من التعليم والصحة والمستوى الاقتصادي والاجتماعي، والأهم من كل هذا شكل وطبيعة السلطة الحاكمة في مصر حتى الآن. ولكن .. كيف تعاملت السينما المصرية مع كل من التاريخين؟ سنجد العديد من الأعمال التي تغنت ومجدت الحركة /الثورة المباركة، واعتنقتها أكثر من ديانة، ثم جاءت أعمال أخرى حاولت أن تبحث عن الأسباب أو تجسد بعضها سينمائيا ــ الأسباب كانت تعيشها مصر وقتها، ولا تحتاج إلى تنظيرات فارغة ــ وما بين ما تدعى ثورة، وأصبحت هزيمة قدم يوسف شاهين فيلميه «فجر يوم جديد» 1965، و«العصفور» 1972، وكل منهما مثال جيد لحالة الزيف التي وقع فيها الكثيرون وحتى اكتشاف المأساة.

الفن كمنشور سياسي

اتسمت فترة الستينيات بالحلم شبه المطلق، وبالتالي غياب المنطق، والغنائية الشديدة، التي أصابت الكثير من الأعمال الفنية، الأمر الذي وصل ببعضها إلى ما يُشبه المنشور الدعائي لسياسات عبد الناصر، و»فجر يوم جديد» هو أحد أهم هذه الأعمال، التي أصابتها الغنائية على حساب الفن، ربما لا يُضاهيه شهرة ــ في هذا الأمر ــ سوى فيلم «رد قلبي» إنتاج 1957 لعز الدين ذو الفقار.
فنائلة/نايلة (سناء جميل) امرأة بورجوازية، تفقد مكانتها هي وطبقتها، نظرا لتغيّر ظروف المجتمع، فلا مكان لهذه الطبقة التي أصبحت زائدة عن الحاجة، وسط مجتمع ثوري، كل أفراده يعملون لتحقيق أهداف كبرى. فالزوج حنفي خنجر أو حمادة، كما يحب أن يُنادوه (يوسف شاهين) عاطل من أغنياء الحروب، فهو متمسح بهذه الطبقة ومفتون بها. يحيا هو وأصدقاؤه في عالم لا يبالي بأحد. متمسك بعاداته القديمة التي انتهى عهدها، يستدين ليحافظ على مظاهر فارغة، لإقامة حفل راقص أو لشراء الخمر. فجميع المفاسد الأخلاقية والنفسية تتجمع في هذه الطبقة. بخلاف المرأة التي ضاقت بحياتها وسط هذا الجو الموبوء، التي تكتشف زيف هذه الحياة عندما تتعرف على الطالب الفقير طارق (سيف عبد الرحمن) وتحبه، لتحيا في عالم جديد من الصدق والبساطة. ولكن الشاب يضطر للسفر للدراسة، وتبدأ هي حياة جديدة، معتمدة على نفسها، عن طريق العمل في جريدة كمترجمة، يرأس تحريرها شقيقها (حمدي غيث)، الذي يكره طبقته، ويمارس دوره في بناء المجتمع الجديد، كنموذج للأرستقراطي الثوري.
فالحكاية تنتمي إلى معظم أفكار تلك الفترة، وإن كانت تخطت سذاجة «رد قلبي». إلا أن المشكلة الأصعب تبدو في المباشرة والنبرة الخطابية التي تقتل أي عمل فني، وتجعل الفيلم أشبه بالمنشور الثوري وقتها، والكوميديا الفارغة الآن. فالسيناريو يقوم على المقابلة بين عالمين.. الأول سيزول ولا مكان له، مقابل الثاني الذي أمامه الطريق والوقت والثقة ليثبّت شرعيته/عالم العهد المنقضي، وعالم الجيل الثوري.
فالشخصيات يمكن النظر إليها كمجموعة خيّرة تواجه مجموعة شريرة، فلا يوجد تمايز بينها، بخلاف عبد الرحمن (حمدي غيث) شقيق نائلة. كما أن عالم الفقراء هو عالم الفضيلة، وهو عالم التضحية والقيم النبيلة (الخادم/حسن البارودي)، بخلاف عالم الزوج (حمادة) وأصحابه الأشرار، الذين يجب التخلص منهم. وهذا ما جعل الفيلم يعاني من المراهقة الفكرية، بدون أن يتميز عن أفلام تلك الفترة، إضافة إلى الحوار الخطابي، خاصة الذي كان يؤديه حمدي غيث، كأنه في الاتحاد الاشتراكي رحمه الله ــ الرحمة هنا على الفنان والاتحاد الاشتراكي في الوقت نفسه ــ كما أن حوار الشاب في الكثير من الأحيان، وإن كان يتماس مع الطفولة، إلاّ انه يقترب أكثر من السذاجة.

العصفور الذي سقط عنه الريش

وبخلاف التقليدية الشديدة في فجر يوم جديد ــ تقليدية نابعة عن ثقة ويقين ــ يبدو التشوّش والاضطراب الكبيرين في فيلم «العصفور»، كاتب صحافي يوسف (صلاح قابيل) يقوم بالتحقيق في السرقات التي تتم في القطاع العام، فالفساد قد أصاب الجميع، خاصة القطاع العام، أحد أهم إنجازات ثورة يوليو، وما بين الست بهية (محسنة توفيق) والدلالة المباشرة بدورها، بأنها مُسمى لمصر، التي تحب يوسف، المناضل على طريقته، والباحث عن الحقيقة، تبدو الشخصيات ومحاولات مستمرة لإدانتها، من الشيخ (علي الشريف) إلى الجندي على جبهة القتال (سيف عبد الرحمن)، فالجميع ارتضى أن يتقبل الوهم ويعيشه ويتنفسه، الجميع آمن وصدّق، ولم يفعل أكثر من ذلك، فكان لزاما عليه تحمّل النتائج.
هنا شاهين يحاول أن يستوعب ما حدث، وهنا يتضح الفارق ما بين حوار كل من عبد الرحمن الشرقاوي في فجر يوم جديد ــ الخطب العصماء والبلاغة اللي بتعجب ــ وبين حوار لطفي الخولي في «العصفور»، التوتر وعدم الثقة وانعدام اليقين، وإدانة حالة التخاذل التي أصابت الجميع. ليبدو «العصفور» وهو في قمة انكساره أمام الجميع، هنا لا يغني ولا يتباهى، فقط صوت جريح خافت يخرج على استحياء في مواجهة الشعب المخدوع، وهو ما تمت تسميته بـ(خطاب التنحي) ــ لاحظ أن الفيلم إنتاج 1972 ــ إلا أن الست بهية ومعها جموع الشعب العامل تخرج صارخة في البريّة .. «هنحارب» ــ جموع الشعب تم استئجار أكثرهم من قِبل أجهزة أمن تلك الفترة ــ فإن كان الفيلم الأول عبارة عن أغنية مستمرة ومتكررة تصيب بالصمم، فالفيلم الأخير عبارة عن حالة مزمنة من العويل. بدون أن يتميز «العصفور» عن «فجر يوم جديد» سوى ببعض الغموض والأفعال غير المبررة للشخصيات، التي اقتربت وتساوت مع كليشيهات وأنماط فكرية ليس أكثر. ففي الفيلم الأول كانت النهاية معروفة ويتم التحضير لها طوال الفيلم، هناك عالم جديد ينتظر ــ شيء أشبه بـ»يا أهلا بالمعارك يا بخت مين يشارك» ــ أما الفيلم الأخير فلا بداية مفهومة ولا نهاية سوى الصراخ في وجه الجماهير، كمحاولة لحشدها مرّة أخرى، خاصة وقد رحل العصفور إلى الأبد هذه المرّة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى