«الرجل ذو الألف وجه» للاسباني ألبيرتو رودريغيث: حكاية رجل نجح في النصب على دولة بأكملها

خالد الكطابي

بعد مرور أكثر من عشرين عام على الحدث الحقيقي، يأتي المخرج الإسباني ألبيرتو رودريغيث ليعيد على شاشة السينما حكاية أشهر شخصية دخلت التاريخ الإسباني من بوابة النصب، وعرفت كيف تحتال على أجهزة دولة بأكملها. يتناول فيلم «الأومبري دي لاس ميل كاراس»، أي الرجل ذا الألف وجه، قصة العميل الاستخباراتي، فرانسيسكو بايسا، الذي وجد نفسه مفلسا بعد إبعاده من الجهاز، وتدهورعلاقته مع زوجته التي بدأت تسوء، لكونه أصبح يشكل عبئا ثقيلا، نتيجة فشله في كل المشاريع والصفقات المشبوهة التي كان ينوي القيام بها، وتأثره بحياة البذخ التي لا تنتهي. وسط هذه الانهيارات ستبعث الحياة من جديد في شراييينه بعد أن تم اللجوء إلى خدماته من طرف لويس رودلان، المسؤول الأول عن الحرس المدني الإسباني، الذي تمكن من الاستيلاء على مبالغ مالية طائلة ومراكمتها طيلة ترؤسه للجهاز الأمني، ولاستباق انكشاف أمره يحاول ضمان تهريبها بعد أن ينجح هو الآخر رفقة زوجته في مغادرة البلاد. اختيار المسؤول الأمني لفرانسيسكو بايسا كان بناء على مساره المهني، خاصة مساهمته في أكبر عملية ضد حركة إيتا الباسكية وضلوعه في عالم الاتجار بالسلاح وعلاقاته المتشعبة مع العصابات الدولية، ما يجعل الثقة فيه كافية لإنجاح مهمة تهريبه إلى خارج البلاد. في النهاية سيتمكن من خداع الجميع ويظل لغزا محيرا.

صفقات مشبوهة لا تنتهي

يتمكن بايسا من إقناع المسؤول الأمني (كارلوس سانتوس) بأنه في مكان آخر بعيد عن إسبانيا غير أنه كان يقيم فقط في باريس، يحرسه أفراد عصابة، ما يدل على العلاقات الأخطبوطية التي يتوفر عليها العميل.. وبعد مكوثه متخفيا عن الأنظار لمدة طويلة يسأم رودلان من حياته الجديدة، ويقترح تسليم نفسه والعودة لبلاده مهما كانت الظروف. ولأنه دائما يتميز بذكاء ومكر لا يوصفان، فقد عقد صفقة مع وزير الداخلية الإسباني يظهر فيها بأنه سيتسلم المتهم الأمني من دولة لاوس، في الوقت الذي لم تطأها قدماه، كما حاول إقناع الهارب بأن العودة ستتخللها محاكمة عادية تتعلق بالتبذير المالي، وبأن الأمور ستعود إلى مجراها الطبيعي، وبأنه سيقوم بتسليم نفسه والذي تم من بانكوك عوض لاوس.

الأسلوب وسرد الوقائع

عمد المخرج ألبيرتو رودريغيث إلى توظيف طابع التهكم والسخرية على مسار أحداث الفيلم، حيث تبدو الشخصيات طبيعية في أدائها وقريبة جدا من المشاهد الإسباني، فقام مخرج الفيلم الذي شارك في كتابة السيناريو إلى جانب رافائيل كوبوس لوبيث، تقديم قصة أشهر نصاب، معتمدا على الكتاب الذي ألفه الصحافي مانويل ثيردان «بايسا، الأومبري دي لاس ميل كاراس» ولجذب انتباه المشاهد، تم توظيف طابع الهزل الذي تولده مجريات الأحداث، حتى لا يقع المتفرج في الابتذال، تماما كما حدث عند تناوله لعمليات تبييض ونقل الأموال واختلاق الطوابع والتزوير في الأوراق الرسمية، التي يقوم بها العميل السابق بشكل يجعلنا نعيد قراءة الوقائع بسخرية تسائل في المقام الأول المسؤول السياسي الذي يدير البلاد.. كما وظف المخرج النشرات الإخبارية التي تناولت الحدث حينها والذي شكل مادة إعلامية هامة، بل جعل المشاهد الإسباني/الشاهد عن الأحداث يعود بذاكرته إلى 22 عاما خلت. وعن علاقته بمقدمي نشرات الأخبار الذين ما زالوا يقدمونها، بل وكيف بدأ بعضهم مساره المهني ابتداء من ذلك الزمن الذي عرف تحرير قطاع السمعي البصري، وانطلاق قنوات خاصة بالإضافة إلى القنوات العمومية. لم يكن ألبيرتو رودريغيث مرشحا في البداية لإخراج الفيلم الذي تم اقتراح أسماء أخرى لإدارته، لكن الاختيار الأخير سيقع على ابن مدينة إشبيلية (1971) ليوقع فيلمه السابع. وارتأى ألبيرتو أن يركز في حكاية الفيلم الذي بدأ من قصة هروب رودلان، معتبرا أن باقي فصول الكتاب لا تعنيه، رغم أهميتها، لأنها تفاصيل كثيرة لا يمكن نقلها كلها للشاشة الفضية. ويضيف المخرج الأندلسي أنه على الرغم من أن الشخصيات في الفيلم موجودة في الواقع، فالقصة التي نحكيها ليست صحيحة تماما. «فعلى الرغم من قراءتنا للعديد من الكتب ومن الوثائق العديدة التي نطلع عليها، ندرك على الفور أننا لن نعرف حقيقة ما حدث…لهذا السبب، قررنا أن نعالج الفيلم من وجهة نظر روائية».

الحكاية السينمائية

وتابع رودريغيث «لقطات الفيلم تسعى باستمرار لتذكير المشاهد أننا في فيلم من صنع الخيال.. كما أنني من خلال الفيلم لا أسعى إلى أن أجعل من شخصية بايسا بطلا أعتبره شخصية مثيرة، لكنني لا أتقاسم معه أخلاقه». وحسب ألبيرتو رودريغيث «فمن المؤكد أن للفيلم قراءة ثانية، لكن العمل يرمي إلى حكي قصة عن أشهر المخبرين في إسبانيا، وأتمنى أن لا يتم استغلاله سياسيا، لأن ذلك ليس قصدي».

الفساد السياسي

لا شك في أن الفيلم أحرج من كان مسؤولا في تلك الفترة من حكومة الاشتراكي فيليبي غونزاليث، حيث كان بايسا متعاونا إلى أبعد الحدود في متابعة عناصر حركة إيتا الباسكية، بل تمكن بمكره الخارق من الاستيلاء على أموال المسؤول الأمني، وأكثر من ذلك عقد صفقة مع وزير الداخلية حينها، خوان أنتونيو بيوتش، الذي انكشف كذبه أمام الرأي العام الإسباني والدولي بعد نسب كل عمليات القبض على المسؤول الأمني لمجهودات وزارته، في الوقت الذي أظهرت فيه الوقائع أنه حتى ترتيبات الوزير التي فبركها، سيتم كشفها قبل أن يستفيق على حقيقة لم تخطر له ببال، أنه تعرض هو الآخر للنصب. واعتبر مخرج الفيلم أن الوزير خوان أنتونيو بيوتش لن يعجبه الفيلم، لأنه هو الوحيد الذي تحدث عنه الفيلم كمسؤول سياسي.. وأعتقد أن هذا العمل ترفيهي يفكر أساسا في المشاهد. وبالمقابل لم يسع إدوارد فرنانديث إلى إصدار حكم مسبق على بايسا، الذي جسد شخصيته، سواء بعد أدائه للدور أو بعده.
حقق الفيلم جائزتين أثناء تنافسه على أهم جوائز غويا في دورتها الـ31، حيث ظفر بلقب أحسن سيناريو مقتبس، ثم بأفضل ممثل واعد الذي ناله كارلوس سانتوس عن أدائه لشخصية لويس رودلان.. كما حاز بطل الفيلم إدوارد فيرنانديث «القوقعة الفضية» لأحسن ممثل في الدورة 64 من مهرجان سان سيباستيان السينمائي الدولي. ويمكن اعتبار أن فيلم «الأومبريدي لاس ميل كاراس» 2016 و«لا إيسلا مينيما» 2014 يشكلان معا، وإن اختلفت حكايتيهما، مشروعا سينمائيا متكاملا يسلط فيهما المخرج ألبيرتو رودريغيث الضوء على إسبانيا التي بدأت مرحلة جديدة، عقب رحيل الجنرال فرانكو، بعد الإعلان عن الانتقال الديمقراطي، الذي تعرف حلقاته العديد من قضايا الفساد التي طالت الحقل السياسي والأمني والمالي ولم يسلم منها اليوم حتى القطاع الفني والرياضي بعد ذلك، في الوقت الذي لاتزال فيه بعض الوجوه الإعلامية المعروفة لدى المشاهد الإسباني تقديم النشرات الإخبارية مع اختلاف وتعدد قضايا الفساد وانتماءات أصحابها، وكأن شيئا لم يتغير طيلة 22 سنة مرت على أحداث الفيلم.

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى