«ثورة درب عِشرة» … لوحة قاتمة لمجتمع مأزوم

عمار علي حسن

يبدو الكاتب المصري محمد شمروخ كأنه يسامر من يقرأ قصص مجموعته «ثورة درب عِشرة» (الدار للنشر والتوزيع)، إذ تشعر وأنت تطالعها بحضوره معك، وحدبه عليك، ورغبته العارمة في أن يجعلك تنصت إليه، وتصبر حتى يكمل حكايته. بل تجده يتدخل أحياناً في ثنايا قصته ليعلق على المواقف، ويدلي برأيه في الشخصيات، في حالة من الكتابة المحتفية بالعفوية والشفاهية في مفرداتها وتراكيبها وصورها المتداولة، والتي لا يخلو منها أي من قصص المجموعة التسع عشرة.
وتشي عناوين القصص بهذه الخاصية، لاسيما «تقاطع شريف»، «خالو يا خالو»، «زواج على نفقة الدولة»، «بنت للكبار فقط»، «أول ميعاد في وسط البلد»، «نصف خيانة في الجريون»، «تقرير الأستاذ سري»، «أوكار يعجز عنها الشيطان»، و «عفريت في قصر النيل». وهي تصور حالات ومواقف، وتعين أماكن، وتطرح تعبيرات بسيطة متداولة، تخفي وراءها حمولات ثقافية من اللغة والشفرات والطقوس والأفعال المستقرة، والتي ترد في كثير من الكتابات والتغطيات الصحافية. ومن بين عناوين القصص ما يلخص الحكاية التي تندرج تحتها، ومنها ما يتسربل ببعض الغموض، وهي في مجموعها تظهر موقفاً ناقداً لرجل ريفي، لكل ما رآه وعرفه عن المدينة المفعمة بالتناقضات والمفارقات والأنماط البشرية المتنوعة، سواء كانت مألوفة أم غريبة. وهي في الوقت ذاته كتابة لصحافي يتأمل عن كثب التحولات الاجتماعية الجارجة التي تجري حوله بلا هوادة، وتجذبه أحياناً إليها ليتفاعل معها، وهو منها في صد واندهاش. لكن عجبه وتعجبه لا يمنعه من أن يقف منها موقف المحقق، الذي يسبر أغوار الشخصيات، ويبحث عن المعلومات، ويخترق المسكوت عنه والمستور والمتواري، ويجلي الغامض أو ما يجري وراء الأبواب المغلقة، ويجمع التفاصيل المتناثرة ويضغطها أو يكثفها، من دون أن ينساق خلفها فتودي به إلى سرد مترهل، أو تدفعه في مسارات جانبية لا تخدم الفكرة الأساسية لكل قصة على حدة. وهذه السمة صاحبت كتابات شمروخ ومنها كتاباه «الدين والينسون»، و»اعترافات عازب سابق»، ورواية «المؤتمر».
تحكي قصة «ثورة درب عِشرة»، وقائع زيارة قام بها الراوي إلى باحث يساري يعد أطروحة في الفلسفة، يتحدث عن التقدم والحداثة، ويظن أن بوسعه تغيير العالم، لكنه يعجز عن تغيير واقع الدرب البائس الذي يقطن فيه، والذي كثيراً ما ينشب شجار بين أهله من فرط الإحن، ويظن بعضهم أن أفعاله الآثمة يمكن أن تمر لمجرد تبركه بضريحي الشيخ «عَشري»، والشيخة «عِشري».
وفي قصة «زواج على نفقة الدولة» نجد أنفسنا أمام حالة فساد يرتكبه موظف كبير يتبع التحايل في سبيل أن ينجو بسرقته للمال العام، حتى أنه يُحمِّل نفقات زواج ابنته على حساب الشركة التي يترأسها، ويعين العريس في وظيفة مرموقة، على رغم انعدام خبرته. وفي قصة «أنت تريد أن تسمع وأنا أريد أن أتكلم»؛ تصوير لفصام يصيب أحد القضاة، حين يجد نفسه حائراً بين واجبه وانجذابه إلى فتاة ينظر في دعوى مرفوعة ضدها، فيستقيل من وظيفته.
وتأتي «وزيرة في منتصف الليل» لتسرد، في إحكام وتكثيف، قصة فتاة جامعية تعمل في بار سيئ السمعة، لكنها حريصة على أن تنأى بنفسها عن زبائن شرهين طامعين.
أما قصة «كل هذا القبح بعد ميدان الكوربة؟!»، فهي تتعرض لآفة أصابت العمران في القاهرة خلال العقود الستة الأخيرة، حيث تجاورت غابات الأسمنت أو تلاصقت، وتراجعت الأشكال الساحرة للعمران الذي اتسمت به القاهرة الخديوية أو حي مصر الجديدة في أيامه الأولى. بطل القصة مهندس معماري يدرك المعاني الكامنة في تصميمات المباني، بينما لا يدركها أولئك الذين يصرون على تحويل الجمال إلى قبح، ثم يجلسون في انبهار وعجب مما فعلته أيديهم. وتصور قصة «خالو يا خالو» حالة من التواطؤ في سبيل تحقيق الهدف حتى لو على حساب الفضيلة والسمعة الطيبة، إذ تقيم أم علاقة غير شرعية مع رجل ذي نفوذ تزعم أمام أولادها أنه خالهم، حتى يساعدها في تدبير نفقات معيشة أسرتها، ويساعد ابنيها على الالتحاق بوظيفتين مهمتين، وينتشلهما من البطالة والضياع.
وتتناول قصة «تقاطع شريف» واقعة موت أحد الأشخاص على الرصيف في وضح النهار في وسط القاهرة، ويمر به الناس غافلين عنه رغم أن من بينهم من يعرف اسمه وعنوان الشقة التي يقطنها في الحي ذاته.
تغطي قصص المجموعة زمناً معاصراً للمجتمع القاهري المتنوع في طبقاته وشرائحه الاجتماعية، وفي ثقافاته الفرعية ومدركاته وتصوراته، وخلفياته الجهوية، ومنابعه وروافده، ولذا فهي تبدو شهادة على أزمة المدينة الكبرى، من حيث ناسها ومؤسساتها الحكومية والأهلية، وميادينها وشوارعها، وحاراتها وباراتها ومقاهيها وبيوتها ومساجدها وزواياها وأضرحتها. وهي تعرض في كل هذه الأماكن ألواناً من التدابير والتصرفات حيث الخيانة والتحايل والفساد والتناحر والهروب من الواقع، والعيش في الأوهام التي يعيش فيها بعض المثقفين، والأحلام التي تراود الشباب في التغيير، وحالة التجبر التي تسيطر على بعض رجال الأمن، والترقب الذي يعشش في نفوس موظفين ينتظرون المرتبات والعلاوات والترقيات، وضياع السكارى الهاربين من قسوة الحياة في لذة الغياب الموقت، وبعض النقابيين الذين يحملهم زملاؤهم على الأعناق أيام الانتخابات وهم يلوحون بالشعارات والمطالب والأمنيات ثم ينسون كل شيء حين يجلسون على المقاعد الباردة. هؤلاء وغيرهم يصنعون اللوحة الاجتماعية العريضة التي رسمتها هذه المجموعة اللافتة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى