بين فيلم «ميراث الريح» والواقعة الحقيقية: ما نزال نحيا تداعيات «محاكمة القرد»
زيد خلدون جميل
يعد فيلم «ميراث الريح» (1960) أكثر الأفلام الأمريكية اثارة للجدل وكان من بطولة أشهر الممثلين الأمريكيين في عصرهم وهم فردريك مارش (1897 ـ 1975) وسبنسر تريسي (1900 ـ 1967) وجين كيلي (1912 ـ 1996) ومن إخراج وإنتاج ستانلي كريمر (1913 ـ 2001) الذي كان من أبرز المنتجين آنذاك.
وكان الفيلم مقتبسا من مسرحية انتجت عام 1955. وأعيد إنتاج المسرحية والفيلم عدة مرات، ومثّل فيها عمالقة التمثيل الأمريكيين.
تدور أحداث الفيلم حول محاكمة سُميَت في حينها محاكمة القرن وكان لنظرية دارون للتطور، التي تنص على أن الإنسان منحدر من القرد، دور أساسي فيها. ففي إحدى الولايات الأمريكية (لم يحددها الفيلم) كان هناك قانون يمنع تدريس نظرية دارون في المدارس الحكومية، بينما يفرض تدريس وجهة النظر الدينية في هذا الموضوع، ومع ذلك قام احد المدرسين بتدريس النظرية، ما أدى إلى إلقاء القبض عليه وتقديمه للمحاكمة. وسبب هذا ضجة كبيرة في جميع أنحاء البلاد، ما أربك مجلس البلدة وأبرز رجالها، ومع ذلك فقد اتفقوا على ان الأمر سيعود بالأرباح للبلدة، في حالة تركيز الإعلام على المحاكمة. ومما زاد الأمر إثارة تطوع السياسي ماثيو هاريسن برَيدي (مثل دوره فردريك مارش)، الذي كان قد سبق أن دخل انتخابات الرئاسة الأمريكية دون نجاح ومن أشهر المتدينيين في البلاد، للانضمام الى هيئة الإدعاء العام، بينما تطوع أشهر محامي في أمريكا هنري درامند (مثل دوره سبنسر تريسي) للدفاع عن المتهم الذي لم ينف مخالفته للقانون. ودخل «برَيدي» البلدة في موكب مهيب محاطا بجموع المشجعين والأعلام الوطنية، أما «درامند» فقد وصل في حافلة عادية، ولم يكن في استقباله سوى صحافي واحد (مثل دوره جين كيلي) الذي كان من البارزين في الفيلم.
أفكار واعتقادات الجمهور
يُظهر الفيلم الأجواء خارج المحكمة، التي كانت أشبه بالمهرجان، فهناك من قدم عرضا للجمهور شمل قردا مرتديا بدلة رجالية، مدعيا أن القرد قد تطور من الإنسان وليس العكس، وهناك من كان يبيع الكتب الدينية، وآخرون يعرضون الغرف النظيفة للإيجار للزوار، خاصة أن الصحافيين والمهتمين قد ملأوا البلدة. ويبين الفيلم امتلاء قاعة المحكمة بالجمهور. وكانت بداية المحاكمة كارثة بالنسبة للدفاع فقد كان الجمهور في القاعة متجاوبا مع الادعاء، ورفض القاضي قبول شهود الدفاع الذين كانوا من كبار العلماء لتوضيح نظرية دارون، فغير محامي الدفاع (درمند) خطته وطلب أن يستجوب السياسي الشهير (برَيدي) كشاهد على أساس أنه خبير كبير في الشؤون الدينية. وأثار هذا الدهشة لكون السياسي عضوا في فريق الادعاء العام، لكن السياسي قبل الفكرة كي يتحدى محامي الدفاع ويتغلب عليه في النقاش، ناسيا أنه إذا كان هو، أي السياسي، خطيبا عظيما، فإن محامي الدفاع كان مجادلا أعظم وذا خبرة لا تضاهى في المحاكمات. وهنا بدأ النزال بين العملاقين، وأخذ ميزان القوى يميل الى جانب محامي الدفاع تدريجيا حتى أصبح الجمهور في القاعة إلى جانب الدفاع بحماسة وساخرا من أجوبة السياسي. ولكن في نهاية المطاف قررت المحكمة إدانة المتهم، وحكمت عليه بدفع غرامة مقدارها مئة دولار، فاستشاط السياسي غضبا لبساطة الغرامة واحتج لدى القاضي، وأراد أن يلقي خطابا، إلا أن القاضي أوقفه لأن المحكمة انتهت، إلا أن السياسي بدأ بخطابه، ولكن الهرج ساد قاعة المحكمة وضاع صوت السياسي وسط الضوضاء الصاخبة، وانهار الرجل ليموت في القاعة. هذه هي قصة الفيلم.
بين الفيلم والحدث الحقيقي
كان فيلم «ميراث الريح» مقتبسا من محاكمة حقيقية دارت أحداثها في صيف عام 1925 في بلدة دَيتن الريفية الصغيرة، الواقعة في ولاية «تينسي» الأمريكية وسميت آنذاك بمحاكمة القرد، ولكن أسبابها لم تكن تماما كما صورها الفيلم، لأنه لم يكن صادقا في نقل أحداث المحاكمة، أي أن الفيلم لم يكن وثيقة تاريخية. فقد كانت التنظيمات والأفكار الدينية تزداد شعبية في الولايات المتحدة آنذاك، وفي الوقت نفسه كان الاهتمام بالعلوم في ازدياد في بلد عرف بكونه الأكثر تقدما علميا في العالم، ولا يزال. أما نظرية دارون للتطور فقد كانت مترسخة في الأوساط العلمية والمثقفة، بل أن الكنائس في المدن الكبرى تقبلتها كحقيقة واقعة، أما الكنائس في الريف فرفضتها بشكل عام، وفي الوقت نفسه كانت تحدث في تلك الفترة تغييرات في المجتمع الأمريكي، وبشكل خاص في المناطق الريفية، حيث ازداد عدد الطلاب الذين يدخلون مرحلة التعليم الثانوي التي تشمل دراسة العلوم. كان هناك قانون في ولاية «تينسي» يمنع دراسة نشوء الإنسان حسب نظرية دارون للتطور، ولكن اتحاد الحريات المدنية الأمريكي أعلن أنه سيدفع تكاليف الدفاع عن أي مدرس يخالف هذا القانون. وفي الوقت نفسه كانت بلدة دَيتن، التي لم يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف تعاني من مصاعب مالية، فاجتمع رجل أعمال محلي ومحام يعمل لدى الادعاء العام مع المشرف على المدارس في البلدة، وقرروا أن يتفقوا مع أحد المدرسين على مخالفة هذا القانون، كي يُقَدم للمحاكمة وتتركز الأضواء على البلدة ليجلب لها هذا الأموال، وتم الاتفاق مع مدرس كان صديقا للمحامي، وهذا ما حصل. وفي الحقيقة فإن السياسي المتدين الذي شارك في الادعاء هو وليام جينينغز براين (1860 ـ 1925) الذي كان مرشح الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية ثلاث مرات دون نجاح، ووزير الخارجية الأمريكي أثناء الحرب العالمية الأولى. وكان أيضا محاميا إلا أنه لم يسبق له أن ترافع في المحكمة منذ ستة وثلاثين عاما، وعلى الرغم من تصوير الفيلم لبراين على أنه إنسان متزمت جدا في تدينه وذو شخصية تميل إلى التهريج فإن الرجل لم يكن كذلك، فقد كان عضوا في عدة منظمات علمية وعرض التبرع بتسديد الغرامة للمدرس في حالة إدانته، كما أنه لم يكن يؤمن بالأخذ بالكتب الدينية بشكل حرفي، على عكس ما صوره الفيلم، وكذلك لم يمت في قاعة المحكمة بشكل دراماتيكي، بل توفي بعد نهاية المحاكمة بخمسة أيام بسبب تناوله وجبة ثقيلة.
مأزق العلم والدين
من الجانب الآخر من المحاكمة، أي الدفاع، فقد كان هناك المحامي الشهير كلارنس دارو (1857 ـ 1938) وهو من أشهر المحامين في عصره. وكان هذا المحامي في البداية قد تردد في إقحام نفسه في هذه المحاكمة خشية أن وجوده سيحول المحاكمة إلى مهرجان، إلا أنه اقتنع لاحقا بأنها ستكون مهرجانا في جميع الأحوال، فقرر الاشتراك خاصة بعد سماعه باشتراك السياسي الشهير في المحاكمة. وفي الواقع إن أحد أهم أسباب ولع الناس والإعلام آنذاك بالمحاكمة هو اشتراك هاتين الشخصيتين المعروفتين فيها. ولم يكن اتحاد الحريات المدنية الأمريكي مؤيدا لاشتراك المحامي كي لا تتحول المحاكمة الى هجوم على الدين، لأن موقفه كان معروفا آنذاك. وهناك شخصية أخرى في وسط هذه الواقعة تستحق الذكر وهي شخصية هنري لويس منكن أشهر صحافي في الولايات المتحدة آنذاك، وأفضل من كتب عن المحاكمة حتى أنه هو الذي أطلق اسم «محاكمة القرد» عليها وكانت صحيفته قد تعهدت بدفع جزء من تكاليف الدفاع. وإذا كان أصحاب فكرة المحاكمة جذب الانتباه إلى البلدة، فإن التركيز الإعلامي على المحاكمة فاق توقعاتهم، وأصبحت البلدة حديث الناس في جميع أنحاء البلاد، وتم نقل جميع جلسات المحاكمة التي دامت ثمانية أيام بالراديو على الهواء (لم يكن التلفزيون موجودا آنذاك) وكانت هذه المرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة. وعلى عكس ما عرضه الفيلم فإن سكان البلدة لم يكونوا عدائيين تجاه مؤيدي نظرية التطور لدارون، بل إنهم خلقوا جوا أشبه بالمهرجان. أما المتدينون فقد كان لهم عرض جانبي شمل قردا وتوزيع الكتب الدينية. وأما قاضي المحكمة فقد كان معروفا بتدينه حتى أنه قرر ان تبدأ كل جلسة صباحية بالصلاة، ما أثار حفيظة دارو واعتراضه ولكن دون جدوى. وحاول السياسي الشهير (أي الادعاء) العثور على عالم يدحض نظرية دارون، ولكن من غير طائل. أما الدفاع فقد طلب مساعدة الكاتب الإنكليزي أج. جي ويلز، الذي اعتذر لعدم خبرته بالقانون. ولا نعلم سبب قبول القاضي المناقشة بين السياسي ومحامي الدفاع حول العلم والدين، التي كونت الجانب الأشهر من المحاكمة، وهو الذي أكد على أن المحاكمة ليست حول دستورية القانون، ثم قراره بعدم أخذ هذا النقاش الشهير بنظر الاعتبار وشطبه كدليل. ولم يكن العلم أو الدين سبب المحاكمة، بل مخالفة المدرس لقانون في الولاية وهي مخالفة لم ينفها المدرس المتهم نفسه، بل إن محاميه نفسه أقر بذلك وبذا فإنه لم يحاول فعلا الدفاع عن المدرس، على الرغم من احتمال إمكانية ذلك بسبب وجود تناقض غريب هنا، وهو أن أحد الكتب المقررة في منهج مدارس الولاية الحكومية يشرح نظرية دارون وهذا يعني أن المدرس كان مجبرا على تدريس النظرية، وقد يكون الحكم بالبراءة في هذه الحالة ممكنا، ولكن المحامي لم يطرح هذا لسبب ما.
وإذا كانت المحاكمة مدبرة من قبل البعض، كما ذكرنا أعلاه، فهل كان السياسي ومحامي الدفاع الشهيرين على علم بذلك، واذا كانا كذلك فلماذا أشتركا في المحاكمة، وهل كان القاضي يعلم بهذا التدبير؟ وهل كان اتحاد الحريات المدنية الأمريكي والصحافي الشهير على معرفة أيضا بتدبير المحاكمة؟
اعتبر أنصـــــار كل من طرفي المحاكمة أنفسهم منتصرين بعد انتهائها، وكانت هناك قبيل المحاكمة، خمس عشرة ولاية أمريكية على وشك إصدار قوانين شبيهة بقانون ولاية «تينسي»، الذي كان ينص على منع تدريس نظرية دارون، ولكن ولايتين فقط سنتا القانون بالفعل بعدها، والتي كانت خير دعاية لأهمية العلوم. ولا يزال الجدل بين انصار كل طرف في هذا الشأن قائما حتى الآن ولا تزال هناك محاولات لسن قوانين مشابهة لقانون عام 1925.
(القدس العربي)