غومبرتش يروي «قصة الفن» بالكلمات والصور
مهى سلطان
صدر عن هيئة البحرين للثقافة والآثار كتاب للباحث البريطاني ارنست غومبرتش (1909- 2001) بعنوان «قصة الفن» ترجمه الى العربية عارف حديفة (من القطع الكبير يقع في 699 صفحة). يعتبر هذا الكتاب مدخلاً لتاريخ الفن وهو من أكثر الكتب الفنية شهرة وانتشاراً في العالم، بقي بلا منافس طيلة أكثر من خمسين عاماً، لا سيما أن مؤلِّفه النمسوي المولد ذو الأصول الألمانية، اقترن اسمه بلقب Ernest Sir أو السيد ارنست، لا سيما بعدما شغل منصب استاذ في جامعة لندن ما بين عامي 1959- 1976، وهو من أشهر المتخصصين في تاريخ الفن، ترك مؤلفات كثيرة من بينها «الفن والوهم».
يقول ارنست في مقدمة الكتاب «لا يوجد في الحقيقة شيء اسمه الفن، بل يوجد فنانون فحسب. وهؤلاء كانوا ذات يوم اناساً تناولوا تراباً ملوناً وخططوا صور ثور على جدار كهف، واليوم يشتري بعضهم علبة ألوان، ويصممون ملصقات للإعلان، وقد فعلوا ويفعلون أشياء كثيرة. لا ضير في تسمية هذه النشاطات كلها فناً طالما حفظنا في أذهاننا أن مثل هذه الكلمات قد تعني أشياء مختلفة في أزمنة وأمكنة مختلفة، طالما أدركنا أن الفن بالمعنى المجرد غير موجود». ويضيف: «أن تعلم الفن لا ينقضي، فهناك أشياء جديدة دوماً على المرء أن يكتشفها، وأعمال الفن العظيمة تبدو مختلفة في كل مرة نقف أمامها، تبدو غير قابلة للنضوب، ولا يمكن التنبؤ بها شأن البشر في الواقع. انها عالم مثير للمشاعر له قوانينه الخاصة ومغامراته الخاصة. لا أحد ينبغي أن يظن أنه يعرف كل شيء عنه، إذ لا أحد يعرف. وربما لا شيء أكثر أهمية من التأكد انه حتى نستمتع بهذه الأعمال يجب أن يكون لنا عقل جديد مستعد لالتقاط كل إشارة، وللإستجابة لكل توافق مستتر».
يدعونا ارنست الى إثارة النقاش حول تاريخ العمارة والنحت والرسم، ويتوقف طويلاً حيال ما سمّاه بخطر نصف المعرفة وخطر الادعاء «لأننا جميعاً عرضة للاستسلام لمثل هذه الاغراءات، ويمكن لكتاب كهذا أن ينميها. فما أبتغيه هو أن أساعد على فتح العيون لا على إطلاق الألسنة. إن الحديث الحاذق عن الفن ليس بالأمر البالغ الصعوبة، لأن الكلمات التي يستخدمها النقاد استعملت في سياقات شتى عديدة، إذ فقدت دقتها. وأما النظر الى لوحة نظرة جديدة والمجازفة في رحلة استكشاف فيها، فهما مهمة أصعب. بيد أنها مجزية أكثر بكثير أيضاً. ولا أحد يعلم ما يمكن أن يرجع به المرء الى البيت من هذه الرحلة».
الرحلة التي يدعونا غومبرتش للسفر في تفهم اسرارها واتجاهاتها الفنية لمعرفة روائع كنوزها، تبدأ من السؤال حول كيفية نشأة الفن وتطور معالمه، وهي تشمل الإحاطة بفنون الإنسان البدائي وشعوب ما قبل التاريخ في أميركا القديمة، وفنون ألأبدية في مصر وبلاد الرافدين وكريت، وفنون اليقظة العظمى في اليونان (من القرن السابع الى القرن الخامس قبل الميلاد)، فنون الشعوب التي فتحت العالم (الرومان والبوذيون واليهود والمسيحيون، من القرن الأول الى القرن الرابع الميلاديين)، فنون تَفرّق الطرق: روما وبيزنطة (من القرن الخامس الى القرن الثالث عشر)، فنون النظرة الى الشرق: الإسلام والصين (من القرن الثاني الى القرن الثالث عشر)، وتقوقع الفن الغربي في بوتقة العصور الوسطى: أوروبا من القرن السادس الى القرن الحادي عشر)، فنون الكنيسة المجاهدة في القرن الثاني عشر، وفنون الكنيسة المنتصرة في القرن الثالث عشر، تحولات الفنون: رجال البلاط وسكان المدن (القرن الرابع عشر)، فنون عصر النهضة وتملّك الواقع (أوائل القرن الخامس عشر)، التراث والتجديد (أواخر القرن الخامس عشر في إيطاليا وشمال أوروبا)، تحقيق التوافق بين توسكانا وروما (أوائل القرن السادس عشر)، مظاهر الضوء واللون: البندقية وإيطاليا الشمالية (أوائل القرن السادس عشر)، انتشار العلوم الجديدة: ألمانيا والأراضي المنخفضة (أوائل القرن السادس عشر)، أزمة الفن (أوروبا أواخر القرن السادس عشر)، رؤيا ورؤى: أوروبا الكاثوليكية (النصف الأول من القرن السابع عشر)، مرآة الطبيعة: هولندا القرن السابع عشر، السلطة والمجد: ايطاليا وفرنسا وألمانيا والنمسا (القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر)، عصر العقل: انكلترا وفرنسا (القرن الثامن عشر)، الانقطاع في التراث: انكلترا وأميركا وفرنسا (أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر)، الثورة الدائمة (القرن التاسع عشر)، البحث عن معايير جديدة (أواخر القرن التاسع عشر)، الفن التجريبي (النصف الأول من القرن العشرين)، قصة بلا نهاية ألا وهي «انتصار الحداثة».
يستنتج ارنست غومبرتش بعد تلك الرحلة الطويلة في عالم تاريخ الفن أن معرفتنا بالتاريخ غير كاملة على الدوام. ثمة حقائق جديدة دوماً يمكن ان تكتشف، وقد تغير صورة الماضي. «وهذا ما يجعلني غير مرتاح الى أن كتابة قصة الفن حتى وقتنا الحاضر فكرة ممكنة. صحيح أن المرء يستطيع أن يسجل ويناقش أحدث الأساليب، والفنانين الذين سلّطتُ عليهم الأضواء في اثناء الكتابة، لا يستطيع الا نبي ان يعلم إن كان هؤلاء الفنانين سيصنعون التاريخ حقاً، والنقاد على العموم أثبتوا أنهم أنبياء بائسون. تصوّر ناقداً متحمساً ومتفتح العقل يحاول عام 1890 أن يوصل قصة الفن الى ذلك التاريخ. فهو لم يكن ليستطيع مهما صحّت عزيمته أن يعرف أن الذين كانوا يصنعون التاريخ هم فان غوغ وسيزان وغوغان: الأول هولندي مجنون في منتصف العمر كان يعمل في جنوب فرنسا، والثاني نبيل منعزل ميسور الحال لم يرسل لوحاته الى المعارض منذ مدة طويلة، والثالث سمسار أسهم مالية أصبح فناناً في فترة متأخرة من حياته، وما لبث أن سافر الى البحار الجنوبية. والمسألة ليست إن كان قادراً على تقدير اعمال هؤلاء الفنانين حق قدرها، بل إن كان يعلم بهم على الإطلاق».
مهما بدت كتابات غومبرتش صادمة للمتلقي بإشكالياتها ذات الأبعاد الفلسفية العميقة، ولكنها تظل تثير حولها النقاش، كما تفتح الآفاق أمام الجدل والتأويل في تأملات تاريخ الفن الذي ليس سوى مرآة الإنسان عبر العصور.
(الحياة)