«تاريخ أماكن الخرافة» لأمبرتو إيكو: رحلة في الجغرافيا المستحيلة
ابراهيم العريس
خلال السنوات الأخيرة من حياته، اشتغل الكاتب والناقد الإيطالي أمبرتو إيكو على مجموعة من كتب لم يكن هو مؤلفها. وهو اشتغل عليها انطلاقاً، كما هو واضح، من شغف خالص ومن ولع بتاريخ عدد من أصناف الفنون والآداب. كما انطلاقاً من ثقافته المدهشة ليس فقط بمعنى معرفة شؤون الثقافة وتفاصيلها وتاريخها، بل أيضاً، وفي شكل خاص، انطلاقاً من قدرته الفكرية الفائقة على توظيف تلك الثقافة في نصوص وتوليفات ليس من السهل العثور على ما يدانيها لدى كثر من مثقفي وكتّاب هذه الأزمان. والمحاور الأساسية لهذه الكتب ثلاثة، اثنان منها يتكاملان، وهما «تاريخ الجمال» و «تاريخ القبح» أما الثالث فيختلف عن ذلك الثنائي في هدفه وتفاصيله وإن كان يشترك معه في أسلوبه، وهو «تاريخ أماكن الخرافة» الذي أصدره في صياغته الأولى عام 2013. ونتوقف هنا عند هذا الكتاب الأخير على أن نعود في حلقتين أخريين الى ثنائي الجمال والقبح.
> أشرنا أعلاه الى أن إيكو الذي ألف طوال عقود حياته الإبداعية عشرات الكتب والنصوص النقدية واللسانية والروائية والتاريخية، لم «يؤلف» هذه الكتب الثلاثة ولا سيما منها «تاريخ أماكن الخرافة»، وسنضيف هنا منذ البداية أنه إن لم يكن مؤلفها فإنه مولّفها، أي الجامع بين نصوصها في بوتقة تصنيفية ذات دلالة والموحّد بين أفكارها وبين عشرات اللوحات التشكيلية وحتى الصور الفوتوغرافية واللقطات المقتطعة من أفلام سينمائية بحيث يتمازج البعد البصري مع المقتطفات والنصوص الأدبية والتاريخية في لعبة تعطي الكتاب كله في صفحاته المقتربة من الخمسمائة صفحة في الأصل الإيطالي، نوعاً من تضافر همّه أي يستجيب لما يطرحه إيكو في المقدمة حيث يشير بوضوح الى أن «هذا الكتاب مكرّس للمناطق والأماكن الخرافية» قبل أن يوضح مفصّلاً: أجل «مناطق» و «أماكن»، لأن المسألة تتعلق أحياناً بقارات حقيقية – كما الحال مع الأطلنطيد – وأحياناً ببلدان وقصور، وفي أحيان بشقق حتى، كما الحال مع شقة شرلوك هولمز في بيكر ستريت وسط لندن.
> يقرّ إيكو، ودائماً في مستهل كتابه، بأن ثمة من قبل هذا الكتاب قواميس عديدة تتناول الأماكن الغرائبية والمتخيّلة (معتبراً عن حق أن أكثرها كمالاً هو ذاك الذي وضعه ألبرتو مانغويل وجياني غوادالوبي بعنوان «دليل الأماكن الغرائبية»)، بيد أنه يضيف قائلاً: «لكننا لن نهتم هنا بالأماكن المخترَعة، لأننا لو فعلنا سيتوجب علينا أن نتوقف عند منزل مدام بوفاري، ووكر فاجان في «أوليفر تويست» أو حتى حصن باستياني في «صحراء التتار»…». وليست هذه غاية إيكو من كتابه. فـ «هذه الأماكن أماكن روائية قد يحاول قراء متعصبون لها تحديد مواقعها الحقيقية أحياناً إنما دون كبير نجاح». فما الذي يهتم به إيكو هنا إذاً؟
> يهتم تحديداً بمناطق وأماكن ولّدت «في أيامنا هذه كما في الماضي خيالات ويوتوبيات وأوهام بالنظر الى أن كثراً من الناس قد اعتقدوا حقاً انها موجودة بالفعل أو سبق لها أن وجدت في مكان ما. وعلى هذا النحو، في خمسة عشر فصلاً فرز فيها إيكو بين أنواع الأماكن والجغرافيا الذهنية للمناطق، لجأ الى الأسلوب ذاته الذي كان قد وسم كتابيه السابقين المشار اليهما أعلاه «تاريخ الجمال» و «تاريخ القبح»، حيث اختار عشرات النصوص لعشرات الكتاب وأرفقها بمئات اللوحات ما زاوج هنا في لغة بصرية هي جوهر الكتاب، بين ما ابتكرته مخيلة كبار المبدعين من أماكن وما رسمه كبار الفنانين في مختلف ضروب الإبداع البصري في شكل جعل معه تكاملاً أخاذاً بين اللعبة البصرية واللعبة الذهنية. وهذا من دون أن تكون النتاجات الفنية البصرية متطابقة مع النصوص شارحة لها بالضرورة. وليس من قبيل المصادفة اننا نتحدث هنا عن «تكامل» وليس عن «تطابق».
> لكن أمبرتو إيكو لم يكتف هنا طبعاً بتجميع النصوص التي تغطي، كما الرسوم والصور، ألفيات عديدة من تاريخ الإبداع الإنساني، بل إن توليفه بينها إنما أتى مترافقاً مع تقديم تفسيري وأحياناً تأويلي همه وضع النصوص في مكانها الذهني الصحيح وتمكين الرسوم من تركيز دلالاتها، من دون أن يكون همه هنا رصدها في سياق أي مسار تاريخي محدد، حتى وإن كانت بداية الكتاب تحيلنا الى ساحق الأزمان، وحتى وإن كان الختام يقربنا أكثر الى العصور الحديثة وفنونها، فمرة أخرى ليس الرصد التاريخي ما يهم إيكو الذي لا يطرح نفسه هنا كمؤرخ للثقافة بل كعالم جمال يستكشف بقدر ما يكشف. أما التقسيم الذي اعتمده الكاتب، والذي تعبر عنه فصول الكتاب، فيبدو تقسيماً في المواضيع بقدر ما هو تقسيم في التحقيب التاريخي: الأرض المسطحة والمتقابلات – مناطق الكتاب المقدس – مناطق هوميروس وعجائب الدنيا السبع – غرائب الشرق من الإسكندر الأكبر الى القسيس حنا – الفردوس الدنيوي جزر فورتيني والإلدورادو – الأطلنطيد، مو، والنور – تولي والهيبربولي – هجرات غرال – آلاموت وشيخ الجبل والحشاشون – بلاد الصدف – جزر اليوتوبيا – جزر سليمان والأرض الجنوبية – جوف الأرض وأسطورة الآغارتا القطبية – اختراع رين لي شاتو – وأخيراً مناطق الروايات وحقيقتها.
> والحقيقة أن مجرد استعراضنا عناوين هذه الفصول يبدو كافياً لإدراك مدى الثراء الذي تضمه صفحات كتاب من الواضح انه لا يشكل قاموساً ولا دراسة أكاديمية ولا كاتالوغاً، كما أنه وبأي شكل من الأشكال لا يشكل نوعاً من التعليق على اللوحات الثرية التي تملأ الكتاب. فليس ما لدينا أي شيء من هذا كله. بل ما لدينا نص متكامل لا يدعي الكمال أو حتى إيفاء الموضوع حقه. كما أنه لتواضع مولّفه لا يحاول حتى أن يركز على السمة الفريدة التي تسمه، أي كونه كتاباً يحاول أن يضع قارئه وبكل بساطة أمام ما ابتكره العقل البشري منذ بدايات وعيه، وتحديداً في الأزمان التي تمكننا تسميتها بأزمان – ما بعد – الأسطورة، ما ابتكره من عوالم وصور وخرائط أراد بها أن يخرج عن محدودية عالمه المادي المتاح له. ويفيدنا الكتاب بأن لهذه النصوص، ذات الصلة الأساسية بالمحاولات الدؤوبة للخروج من مادية العالم الجافة الى رحابة الخيال البشري الانسيابي الخلاق، مؤلفين – والى جانبهم يوجد رسامون ومصورون، وسينمائيون في أزماننا المعاصرة – كان بعضهم يلهو مستعيناً بموهبته وأحياناً بعبقريته، فيما كان بعضهم يتطلع الى ما هو أكثر من ذلك بكثير: الى التعبير عن رغبة في «الخروج» من العالم، وحتى في إخراج العالم من العالم، وبالتحديد عبر ابتكار ووصف تلك الأماكن التي قد توصف بأنها خرافية لكنها سرعان ما تحصل على حقها في أن تكون حقيقية بشكل أو بآخر – كما حال اليوتوبيا مثلاً التي غالباً ما اختص الفلاسفة بوصفها ساعين منها لأن تكون نماذج لدولة جديدة تعطي الإنسان ما يحرمه منه الواقع. ومن هنا، ما يُقترح علينا في سياق نصوص هذا الكتاب ولا سيما في الروابط التوليفية التي يدونها إيكو بين فصل وفصل، من أن المسعى الأساس في هذا كله إنما كان البحث عن سعادة ما للإنسان، إن لم يكن في واقع يُشتغل عليه انطلاقاً من خيال المبدعين، ففي «واقع مواز يحضر على الورق وفي الرسوم ليصبح جزءاً من الوهم الإنساني الكبير الذي يكون أحياناً أكثر واقعية من الواقع نفسه.
> وفي هذا السياق، قد يكون من المهم بالنسبة الى القارئ العربي الذي قد يطّلع على هذا الكتاب، أن يلاحظ حصة النصوص العربية والمشرقية في صفحاته حيث يمكننا أن نلمح عشرات النماذج العربية – والشرقية – عن أدب خرافي عربي لعب دوراً أساسياً، كما يمكننا أن نستشف من الكتاب في المسار الإبداعي لهذا النوع من الكتابة بدءاً من ألف ليلة ذات الحضور الكثيف من دون أن يقتصر الأمر عليها.
> مهما يكن، عرفنا دائماً كم كان أمبرتو إيكو نفسه مهتماً بالثقافة العربية وتاريخها، في كتاباته الفكرية كما في رواياته (وعلى رأسها «اسم الوردة» و «بندول فوكو» و «مقبرة براغ»)، هو المولود العام 1932 في مدينة إيطالية تدعى… إسكندرية تقع في منطقة بيامونتى الشمالية، وعرفت كتبه، الفكرية والروائية منها نجاحات عالمية لا تضاهى، عاشها قبل رحيله عن عالمنا لعامين خليا تقريباً.
(الحياة)