في ‘الرواية الجديدة’: مذكرات هيكل أكثر ريادة من ‘أيام’ طه حسين
أحمد فضل شبلول
في آخر صفحة من صفحات كتابه “الرواية الجديدة” يؤكد الناقد د. صلاح فضل أن مذكرات د. محمد حسين هيكل كانت جديرة بأن تسمى “الأيام” بأكثر من مذكرات طه حسين التي أملاها من الذاكرة دون أن تلتهب فيها صور الوقائع وملامح الشخوص، لكن بينما كان طه حسين معتزا بأيامه فخورا بنشرها، ظل هيكل يواري يومياته ويداريها حتى لقد أورث ذلك لأبنائه فلم ينشروها سوى بعد أربعين عاما، وبعد تشجيع المجلس الأعلى للثقافة لهم.
وكأن د. فضل بذلك يعلن موقفا نقديا من “أيام” طه حسين، ومن “مذكرات” محمد حسين هيكل التي كان يخشى نشرها حفاظا على سمعته السياسية والاجتماعية، ولكن المفارقة المؤلمة التي يوضحها د. فضل أنه هيكل السياسي قد مضى لذمة التاريخ، ولم يبق منه سوى هذه الكتابة الإبداعية التي تبرأ منها، وهي تتوجه بألق الريادة.
يتناول الناقد د. صلاح فضل في كتابه “الرواية الجديدة” أعمال 18 كاتبا روائيا وقصصيا مصريا وعربيا، ويوضح في فاتحته أن فن الرواية في الأدب المعاصر هو أعمق تجليات الذاكرة البشرية وأحفلها بالخبرات الإنسانية والجمالية، بادئا بـ أمين معلوف والسلالم الشرق أوسطية التي تبطن من الإعجاب العميق أضعاف ما تظهر عند التحليل، وتبدي من الاختلافات في الرؤية ما يعود بالضرورة إلى طبيعة “البؤرة المتحركة” في وعينا بالآخر القريب والبعيد، المستوطن والمرتحل.
ويتوقف الناقد عند أمثولة الذات والآخر في رواية “سلالم الشرق”، وعند أبنية الزمن وتاريخ الكلمات موضحا مستويات الزمن، والأخ الضد والآخر المعشوق حيث إن هناك صوتا واحدا يهيمن على السرد كله فهو الذي يحكي الحكاية من وجهة نظره.
ومن أمين معلوف إلى عبدالرحمن منيف في “عروة الزمن الباهي .. سيرة جيل التحرير” حيث يوضح الناقد أنه في قلب الرقعة العريضة الممتدة من التوثيق التاريخي للواقع إلى التحليق الروائي للمتخيل تقع فنون السيرة الأدبية للذات والآخر، مؤكدا أن المكان ليس مقولة فلسفية مجردة يدور حولها لفظ فارغ من المعنى، بل هو فضاء يتم تخليقه وإبداعه وإسكانه بالألوان والطعوم والروائح الأصيلة، ذاكرا أن عبدالرحمن منيف له إنجازات حقيقية في توليد شعرية اللغة السردية العربية.
وعن سؤال السرد الأدبي بلغة أجنبية؛ يقول صلاح فضل في بداية حديثه عن المجموعة القصصية “زينة الحياة” لأهداف سويف: “ماذا يعني في السرد الأدبي أن تكتب بلغة أجنبية غير تلك التي ولدت بها وتربيت عليها وتعلمت الأشياء بأسمائها والعواطف الطازجة بكلماتها؟” موضحا أن هذا السؤال تطرحه علينا المجموعة القصصية المترجمة للكاتبة المصرية أهداف سويف.
ثم يفند ذلك في قوله: “إذا كان الوضع الذي يجد فيه الكاتب المغترب نفسه في ملتقى اللغات ومجمع الأجناس يعتبر وضعا أدبيا بامتياز، فإن كل ما يحدث فيه من تقاطعات وتبادلات، من إشارات ومآزق وطرائف يصلح مادة إبداعية، حيث تشف الفروق الدقيقة في العادات والنظم عن دلالاتها الحضارية. ويصبح وصفها ضروريا لالتقاط مساراتها المحتدمة، عندئذ تزدهر المفارقة ويظل الموضوع المفضل لدى معظم كتاب المهجر تجربتهم ذاتها في قلب هذا العالم الجديد.
مؤكدا أن أهداف سويف تتمتع برشاقة فنية بالغة، تستفيد من خبرتها القديمة في مجتمعها المصري العريق، كما تتشرب خبرات محدثة بتلك المجتمعات العربية المهجنة. ويتوقف الناقد عند مشكلتين عسيرتين على المتلقي العربي في إبداع سويف الأولى خاصة باللغة، والثانية بالمنظور الذي تختاره في بعض القصص، ويمثلان تحديا لا تلبث الكاتبة أن تواجهه وتتجاوزه.
وعن رواية “يقين العطش” لأدوار الخراط يرى د. صلاح فضل أن هيكل الأحداث في هذا السرد الحداثي لا يسمح بنهوض وحدة موضوعية كبرى، مما يجعلها رواية تعتمد على الانهمارات العفوية بقدر ما تفتقد التخطيط العمراني، وإن كانت تحشد طاقة شعرية هائلة لتعويض ذلك.
وعن الإشكالية القائمة بين رواية “شرف” لصنع الله إبراهيم، ورواية “الزنزانة” لفتحي فضل، قال الناقد د. صلاح فضل: “إذا احتكمت إلى خبرتي الشخصية في قراءة (شرف) بعد (الزنزانة) فقد شعرت أن ما قام به فتحي فضل من تسجيل دقيق وحرفي لدقائق السجون وأوضاعها قد أشبع فضول القارئ إلى درجة البشم والاشمئزاز، مما جعل إلحاح صنع الله في الفصول الأولى على استعادة هذه التفاصيل وتنميتها بمشاهد أخرى من مصادره المباشرة أكثر مما تطيق حساسية القراء التي تصل لدرجة الغثيان دون أن يترتب على ذلك تعديل جذري في موقف الاستنكار.
وعن بنية المعلومات الروائية في رواية “ِشرف” يرى الناقد أن طول النفس بما ينجم عنه من غلبة الطابع الملحمي على الرواية، وغيبة الاقتصاد في الوصف، قد أوقع الكاتب في سلسلة من الاستطرادات المعلوماتية التي لا تخدم صلابة الهيكل الدرامي للسرد، فهناك إشارات كثيرة لعناصر لا ضرورة لها على الإطلاق. موضحا في موضع آخر من الدراسة أن المعلومات لا يتم تقطيرها روائيا ولا توظيفها لخدمة أي حدث، وإنما هي مجرد تكديس لبيانات موثقة من مصادر صحفية يتم حشو الرواية بها دون مراعاة للطبيعة الفنية أو الجمالية.
أما عن رواية “ساعة مغرب” لمحمد البساطي فيؤكد صلاح فضل أن البساطي فنان بالغ الصدق والتمكن، يعرف كيف يستخلص من عفاء النسيان مظاهر الحياة الأولى، يدون حركتها بخطوط صريحة قوية، لا يدخل كثيرا في حشو الخواطر والآراء، حسبه أن يسلط الضوء البارد على شخوصه المحددة وهي تتحرك على رقعة ضيقة؛ لكنها مفعمة بالظلال والتفاصيل، تميل كتاباته إلى توظيف الطاقة التعبيرية في التشكيل التصويري بأسلوب سينمائي خالص. عين الكاميرا هي التي ترصد الألوان والمساحات، الأفعال لديه متتاليات تمثيلية ترسم حركة الشخوص في المكان. لا يكادون ينطقون سوى بالنزر اليسير الضروري لكشف حركتهم”.
موضحا أن الكتابة تخلو بهذه الطريقة المقتصدة من اللباب الإيديولوجي والعاطفي الطري، لتصبح مثل رغيف الخبز المقدد الناضج الذي توزعت النار بالعدل على سطحه الممدود.
وعن رواية “لا أحد ينام في الإسكندرية” لإبراهيم عبدالمجيد قال د. صلاح فضل إن الرواية أنشودة مطولة للمكان وتاريخه وجمالياته تضم لمنظومة الأعمال الأدبية الكبرى عن الإسكندرية. لكنه يرى أنه من العسير على القارئ الذي تعود على تقنيات السرد المحدثة أن يتقبل بيسر صفحات كاملة من البيانات المباشرة التي يتبرع بها الراوي مهما تلطف في إيرادها، والسؤال الذي يطرحه الناقد في هذا الصدد هو: هل مازلنا في حاجة فنية – لا تاريخية – للتوثيق المكشوف للمادة السردية، أم يكفينا أن يبتلغ الراوي كل هذه البيانات ويخفيها في بطنه؟
وعن رواية “مطارح حط الطير” لناصر الحلواني يرى الناقد أن لغتها شعرية فاتنة، لكنها قليلة الخبرة عاجزة عن استيعاب تفاصيل الحياة على الطريقة السردية ولف أقمطتها بروية وإتقان، لا تكاد تبني عشا بحكاية كاملة أو تدفئ مطرحا بوصف وافعي لمكان أو زمان.
ويؤكد الناقد أن هذا اللون من الكتابة التي دشنها الناقد المتعاطف باعتبارها “عبر نوعية” وبغض النظر عن طبيعتها الفعلية، سواء غلبت عليها هرمونات الشعر فأصبحت ذكرا، أو هيمنت فيها عناصر القص فصارت رواية، أو تأرجحت بينهما فوقفت عند حدود الجنس الثالث، تتميز بخاصية جوهرية هي أنها في إبداعها قبل أن تصبح في تلقيها عبارة عن “تجربة في القراءة” فهي لا تستمد نسغها من معاناة الحياة الفعلية، ولا أحداثها الراهنة المعاشة أو المتخيلة، بل تمتح من ذاكرة الكلمات وتعب من سطور الكتب دون أن تعتمد على مرجعية حيوية مكتملة تتيح لها فرصة الانتظام والاتساق.
وعن مجموعة “البيانو الأسود” لبهاء عبدالمجيد يوضح الناقد أنها تضم ثلاثا وعشرين قصة من هذا النوع الذي تتخذ فيه الكتابة أوضاعا عديدة متنوعة، تتجلى للوهلة الأولى في تعدد الأصوات الراوية؛ بين رجل وامرأة، شاب وكهل، مقيم ومغترب، فهو لا يقتصر على نبرة واحدة، لا يكتفي بحدقة ضيقة، يجرب هذا التنقل النشط بين الأصوات والأنغام مفيدا إلى درجة كبيرة من تقنية الراوي العليم بكل شيء دون أن يمنعه ذلك من إعطاء الكلمة لضمير المتكلم في بعض اللحظات بغية الاقتراب الحميم من الشخصية والتعبير المباشر عن ارتعاشاتها الداخلية. لكن ما يضمن له النجاح في إضفاء صبغة الاكتمال على العمل ويجعل القصة على حجمها الصغير ذات دلالة عند المتلقي دائما، إنما هي طريقة اقتطاع الحدث وقصه من مساحة عريضة وشكل النهاية التي يقف عندها؛ أي عملية التشكيل والتكوير وما توحي به من معان لدى المتلقي على وجه التحديد.
إلى جانب ذلك يقدم الناقد د. صلاح فضل دراسات ومقالات عن “دفاتر التدوين” لجمال الغيطاني، و”الهلالية” لمحمد جلال، و”حكايات المدندش” لأحمد الشيخ، و”أطلال النهار” ليوسف القعيد، و”الخباء” لميرال الطحاوي، و”رأفت الهجان” لصالح مرسي، و”قرية ظالمة” لمحمد كامل حسين.
وكما بدأنا بمذكرت محمد حسين هيكل صاحب “زينب” التي ستصبح من أولى مثيرات السينما المصرية حيث يتم تصويرها مرتين صامتة وصائتة، ننهي عرضنا للـ “الرواية الجديدة” بقول الناقد الدكتور صلاح فضل بأن هيكل حرص دائما في تدوينه لهذه اليوميات على تقديم وجهات النظر المتقاطعة لأنه في صميم تكوينه روائي مبدع.
(ميدل ايست اونلاين)