عودة ماركس في شعر هاتف بشبوش
نوميديا جرّوفينوميديا جرّوفي
الشّاعر والنّاقد والسينمائي هاتف بشبوش ابن السماوة العريقة، وأرض سومر وأوروك، أرض كلكامش، السماوة الغنيّة بأدبائها وشعرائها وفنّانيها، أصدر مجموعة من الدّواوين الشعرية منها: “بأرجاء نهريك الباهيات”، “الشمس تأتي من دفء مخدعك”، “مفترق المجهول”، “عودة ماركس” وله دواوين أخرى تحت الطّبع منها: “رائحة الموز”، “نساء”، “آيس كريم في سلوفاكيا”، “الطريق إلى سانت كروز”.
كما أصدر كتابا في النّقد والأدب في جزئه الأوّل “قراءات نقدية انطباعية لنخبة من الأدباء” ويحضّر للجزء الثاني.
له كتاب نقدي سينمائي تحت الطبع أيضا.
هو عضو في اتّحاد الأدباء العراقيين، وينشر في العديد من الصّحف والجرائد والمجلات الورقية والإلكترونية.
ديوان “عودة ماركس” قيد دراستنا هذه للشاعر المبدع والمتألق هاتف بشبوش الذي تحدّث على لسان ماركس في قصيدته التي وسم بها الديوان كما قال يوما الثائر تشي جيفارا:
“أيّها الساجدون على عتبات الجوع ثوروا فإنّ الخبز لا يأتي بالرّكوع”.
في قصيدة “غزالة جاويد”:
هدّئي شدوك يا غزالة
فالرّصاص
صائمٌ، وجائعٌ، وعطشٌ
يا غزالة
هدّئي لحنك يا غزالة
فاللّيل غفا
على تسبيح طبول القتلِ، يا غزالة
النساء يا غزالة
لا تعرف، سوى أن تكتب أسماءها
بأحمر الشفاه
بينما هُمْ
تبوا حُبّ اللّه بالرّصاص
على لحم جيدك المعافى يا غزالة
أبدعَ الشّاعر في أنْ ينقل لنا قصّة حقيقيّة لشهيدة الفنّ والجمال “غزالة جاويد”. قُتلتْ غزالة جاويد مع والدها بسبب إطلاق النّار من دراجة نارية مسرعة. غزالة أُصيبت بست طلقات في الصدر والبطن وأجزاء أخرى من جسدها. وغزالة من منطقة سوات القبلية على الحدود الأفغانية، اشتهرت بعد أن انتقلت إلى بيشاور مع عائلتها بعد سيطرة المجموعات المتشددة على المنطقة.
وكانت غزالة تسجّل في دبي نظرا لاتساع نفوذ طالبان الذين يحظرون الغناء والرقص. ليبقى قاتلها مجهولاً، هل كان طليقها أم أولئك الذين يمنعون الغناء والطرب والبهجة من النفوس؟
والشاعر هاتف، نقل لنا السّرد بطريقته الأدبية الرائعة.
في قصيدة “لولا دا سيلفا”:
لولا دا سيلفا
بائعُ الخضار
بدم إبهامه المقطوع، وبراكين حروفه
راح يحلم تحت رايات الأرخبيل المنهوب
يطوف خرائب بلاده
حاملا صيحات أحزان الضائعين في آنية الورود
حتى أخرس كلّ من استباح صهيل الفرح
داسيلفيا
الزبّال، العتال، الصباغ، الميكانيكي، السيد الرئيس هنا
إدّخر مائتيْ مليار، وُضعتْ لفقراء بلاده
في بنك لأيّام القحط
مائتي مليار، لم توضع في جيب راهب مسخ
كما هو حالنا المبكي
مع جيوب أمنائنا الضالعين
في الإيمان، والأمان، والأمانة
لولا دا سيلفا، رئيس البرازيل الخامس والثلاثون، لقب بأشهر رجل في البرازيل من الجيل الحديث، بل ولقب بأشهر رجل في العالم. قدّم دا سيلفا العديد من برامج الإصلاح الاجتماعي لحل مشكلة الفقر، ووصف بأنه “رجل صاحب طموحات وأفكار جريئة من أجل تحقيق توازن القوى بين الأمم”.
وهو القائل: “لقد علمتني أمي كيف أمشي مرفوع الرأس وكيف احترم نفسي حتى يحترمني الآخرون”.
لولا دا سيلفا أول رئيس يساري منتخب منذ إنشاء جمهورية البرازيل في15 من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1889.
لقد عانت البرازيل الكثير من المشكلات الاقتصادية، حيث إنّ معدّلات التضخم ارتفعت بقدر كبير، وارتفاع نسبة الفقر والبطالة وأيضًا المجاعات، ولكن بعد أن أصبح دا سيلفا رئيسًا حدثت تحوّلات كبيرة في اقتصاد البرازيل وذلك بفضل المنهج الذي وضعه لبناء الدولة، وهذا المنهج يتمثل في الديمقراطية والسياسة المتوازنة بين البرامج الاجتماعية للأسر الفقيرة إلى جانب التصنيع والتصدير وذلك اعتمادًا على عدد كبير من الشركات العملاقة. وبفضل هذا المنهج الذي سار عليه لولا دا سلفيا، أصبحت البرازيل تحتل المرتبة الثامنة كأكبر اقتصاد على مستوى العالم، واستطاع اخراج أكثر من 20 مليون شخص من تحت خط الفقر وتحسين حالتهم المادية. حيث حُسِّنَتْ أوضاع 8 ملاين أسرة فقيرة، وذلك بتوفير دخل بحد أدنى 160 دولارًا.
دا سيلفا عملَ بجدّ وثابر من أجل شعبه وترقيته ليحتل المراتب العالميّة، عكس حكّامنا العرب الذين يعملون على طمس بلداننا.
الغرب يسير نحو التّقدّم المستمرّ وشرقنا يسير نحو الدمار المستمرّ.
هو ذا المغزى العميق من القصيدة والذي أراده الشاعر هاتف أن نفهمه ونستنبطه ونقارن بينهم وبيننا، كيف كانوا وكيف أصبحوا، كيف كنّا وكيف أصبحنا.
في قصيدة “استفسار شفهيّ”:
“ماذا يقول الطّفل اليتيمُ، الذي شابَ، وهو يرى كلّ يوم،
مؤذن الصباح التقيّ الورع، ينكحُ أمّه فجرا، قبل أن يؤدي طقوس الآذان”.
كتابة اختزلتْ الكثير في جوفها، كتابة جمعتْ الواقع المرير الذي يحصل في عراق اليوم عكس عراق الأمس في زمنه الجميل، وكيف كان للطفولة معنى البراءة والصبا، الزمن الجميل الذي ولّى واندثر بسبب دمار النّفوس والقلوب والأحزان اللاّمنتهية.
عراق اليوم، مليء بالكآبة، الخوف، الألم، وتلك الإنفجارات المتكرّرة والمفاجئة خلّفت يتامى ونساء أرامل وثكالى بسبب استشهاد أزواجهنّ وأبنائهنّ وهم يدافعون بالنّفس والنّفيس في سبيل الوطن.
وعن هذا الطّفل اليتيم الذي كبِرَ وشابَ قبلَ الأوان بسبب الهمّ الثقيل الذي يحمله في أعماقه وهو يرى ذلك الورع التقيّ الإمام الذي يدعو للتّقوى، ذلك الملتحي الزّائف والثعلب المراوغ كيف يعاشر أمّه الأرملة وكيف يمارس عليها فجوره قبل أن يؤدي طقوس الآذان.
جعلنا الشاعر هنا نتعرّف على أصحاب العمائم الزائفة الذين هم في أعماقهم ذئاب ووحوش آدمية.
وعن أطفال العراق الذين شابوا وهم في ريعان الصبا تذكّرتُ ما قرأته يوما من أنّ أحدهم سأل طفل عراق: كم عمرك؟
فأجابه: ثلاثة حروب دمويّة وحصار اقتصادي لا إنساني، وحرب أهليّة بشعة وسرقات ترليونية وتظاهرة مدنية يتيمة وعمائم لا إسلامية وآلاف التفجيرات الإرهابيّة.
فقال له: كلّ عام وأنتَ عراقي.
في قصيدة “عودة ماركس” التي وَسَمَ بها الدّيوان:
ها أنا عدتُ
في صلبِ أحداثكم المروّعة
عدتُ كما كنتُ حينذاك
لم أشاركْ في تقسيم تفاحة، بسكّين العاهات المستديمة
ولا بنصل الفرق بيني وبين الآخرين
عدتُ كما ترون
ليس لي حفيد، جالسَ الأوغاد في قاعات سايكس بيكو
وليس لي زوجة تتّكئ على التّعاويذ أو ترتدي زيّا مُغلقًا
يُثير القيء والدّوار
إنّها القصيدة التي وسَم بها الديوان وتكلّم على لسان ماركس العظيم. الشّاعر هنا تخيّل عودة ماركس من موته ليرى ما يجري ويدور في العالم من ظلم وانتهازية واستبداد ليقول ما قاله بقول الشاعر هاتف:
“ها أنا عُدتُ…”
وماركس القائل: “الإنسان أثمن رأسمال في الوجود”.
شبّه الشاعر ما يجري في العالم من مظالم الأحداث المروّعة، كيف لا وهي أحداث أكثر من مرعبة، فلو بقي العالم بثائية قطبية كما كان سابقا تحت سيادة الشيوعية التي تنادي بالأيدي العاملة الكادحة برمزيها المقدسين (المطرقة والمنجل) وذلك اللّون الأحمر الذي يرمز لدماء من استشهد، لبقي العالم في استقرار، لأنّ الشيوعية تُدافع على العامل والشعب والفقير، والكلّ سواسيّة، فلا فرق بين الغنيّ والمتوسط والفقير. كما قال ماركس العظيم:
“إنّ تراكم الثروة في قطب واحد من المجتمع، هو في نفس الوقت تراكم الفقر والبؤس في القطب الآخر”.
الكلّ في نفس المرتبة، عكس الرأسمالية التي باتتْ تسود العالم وهي من تديره كيفما شاءتْ وأرادتْ، إضافة لكونها تتحكّم في مصير الشعوب التي دُمّر نصفها كما في سوريا، العراق، وفلسطين وما يحدث من فوضى في العديد من الدّول الأخرى، وهي ما قال عنها ماركس أيضا:
“الرأسمالية ستجعل كلّ الأشياء سلع الدين، الفنّ، الأدب، وستسلبها قداستها”.
كما ذكّرنا الشاعر هنا بمعاهدة سايكس بيكو، وعن النساء اللاتي أصبحن جميعهنّ مغلّفات بالأسود لا يمكن التفريق بينهنّ لا يمكن رؤية ولا حتى أعينهنّ، وهذا ما أصبحنا نراه في الكثير من البلدان الشرقيّة بسبب الدّين الذي أصبح الكثيرون ينشرون فتاواهم حسب أهوائهم.
صدق ماركس فيما قال:
“يجب أن نُعلن للحكومات، نحن نعرف بأنّكم قوّة مسلّحة موجّهة ضدّ العمّال، وبأنّنا سنتحرك ضدّكم بطرق سلميّة حيث يكون ذلك مناسبًا، وسنواجهكم بالسّلاح متى اقتضت الضّرورة ذلك”.
ولهذا الحزب الشّيوعي ما زال صامدًا قويّا يرفع الراية الحمراء وللأبد.
في قصيدة “الرشق بالأحذيّة”:
ما أصلب الحذاء
إذا ما سار فوق جباهكم
ما أوسخ النعال
إذا ما طار بشسعه، كيْ يمسخ زيت شاربكم
وما أرذل الأخوّة
إذا ما مرّتْ على شيوخكم زمرُ الثّعالب
وقنّاصوا بعوض خرائبكم
فنوقهم نُحرتْ، ومرّ على الزّاد
كلّ من ذاق وارتحل
الواشي، الصدئ، السجّان
وابن الزانية التي رقصت للجرذ
وجادتْ بأفخاذها للغجر الآخرين، على شاكلة الكيمياوي المجيد
لا … لا … إنّها ليستْ أحذية
لعلّها أحجار سجّيل
بل أحجار منجنيق الثقفي
قصيدة اختزلتْ في أعماقها الكثير من مآسي التاريخ العراقي، وذكّرتنا بأحد روائع المتنبّي حين قال:
قومٌ إذا مسّ النّعال وجوههم ** شكتِ النّعال بأيّ ذنبٍ تُصفع.
ثمّ تُذكّرنا بالخطبة الشهير للحجاج بن يوسف الثقفي يوم اعتلى المنبر وخطب فقال:
” أما والله إنّي أحمل الشرّ محمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله، وإنّي أرى رؤوسًا قد أينعتْ وحانَ قطافها، وإنّي لقاطعها، وإنّي لأنظر إلى الدّماء بين العمائم واللّحى”.
ثمّ سافر بنا الشاعر بعيدا في أبشع جرائم البعث ومجزرة حلبجة بالكيمياوي في 16/03/1988 التي أدّت لمقتل أكثر من ألف كردي من شباب وشيوخ ونساء وأطفال، ذهبوا ضحيّة الوحوش الآدمية عديمي الضمائر.
والقصيدة اختزلت أيضا ما سبّبته الطائفيّة من انقسام بين أفراد الشعب وبين العوائل وبين من يسكنون في نفس البيت.
وهنا يشبه رجال الدين الزائفين بالثعالب لكثرة نفاقهم ودماثة أخلاقهم، يضحكون ويكونون كالحمل الوديع في وجه من يُحدّثونه، وفي أعماقهم ثعالب وذئاب تتمنى لو تنهش المحدث من أعماقه وتنهيه على آخره.
يتمنّى الشاعر لو يكون الرّشق بالأحذية في وجه هؤلاء الخونة الذين ينصبون أنفسهم في المناصب ليسرقوا أموال الشعب كحجارة من سجّيل تلك التي نزلتْ من السماء من جهنّم في وجه أصحاب الفيل يوم أرادوا هدم الكعبة.. “للبيت ربٌّ يحميه.. و للعراق ربٌّ يحميه من طغيان وظلم الظالمين الذين يتمنّون أن يخربوا العراق”.
ويشبّه هذه النعال المتراشق بها كأحجار الحجاج بن يوسف يوم استخدم المنجنيق لهدم الكعبة وقتل عبدالله بن الزبير وهو هناك في مكّة.
ذلك المنجنيق العظيم نتمنّى لو نحصل عليه في وقتنا هذا لنرشق بحجارته كلّ سياسي منافق أو حاكم أو كلّ من يدّعي التقوى والورع وهو في الحقيقة لا يستحقّ تلك المكانة المرموقة التي وصل إليها بالكذب والسرقة والنّهب.
في قصيدة “بغداد ماءٌ ودم”:
أرى جبينك الشتائي، غارقًا
بأمطارٍ
يُقالُ عنها: ماء الله
غارقًا … بدماء
يُقال عنها: سُفكتْ لأجل الله
غارقًا … غارقًا
بالقيام وبالقعود، لأجل الله
والنّاس لا تعرف خطاها
بين أنقاض منْ ماتوا
ومن دُفنوا، ووضعتْ فوق جنائزهم، زهورًا زائفة
وبين العصافير التي أخرسوا صوتها
وبين أقواس النّهار القزحيّة، التي كنسوها
بما تبخّر من أحمر الدّم المسفوح، في ماء دجلة
هذه القصيدة الحزينة اختزلتْ جريمة سبايكر التي لا تُنسى، تلك المجزرة الدمويّة التي ذهب فيها الشّباب في عزّ شبابهم وهم لا يعرفون حتّى لماذا قُتلوا وما هي جريمتهم. مجزرة سبايكر التي فُقد فيها أكثر من 728 شابا.
شباب تلوّن ماء دجلة بدمائهم الطاهرة ليصبح أحمر قاتما، شباب احتضر النّهر جثثهم الكثيرة جدّا ودفنوا في قاعه العميق.
قصيدة تاريخية أبدع فيها الشاعر بطريقته الخاصّة كالعادة في صياغة كتاباته الراقيّة فكتبَ واقعًا حقيقي سيبقى محفورا في صفحات تأريخ العراق وشاهدا للأجيال القادمة عندما يسألون.
هو ذا العراق الحزين الذي شربت تربته داء أبنائها ومازالت وما ارتوتْ.
العراق الذي نصف أرضه مقابر جماعيّة في زمن البعث الظالم، ذلك الزمن الكابوسي التي لم تندمل جراحه ليومنا هذا ولم تجفّ دموع النساء الثكالى والآباء المفجوعين دون نسيان الأطفال الذين تشرّدوا بسبب اليتم.
ما يحيّرنا أنّ كلّ القتل الذي يجري باسم الله.. الذبح باسم الله، الوأد باسم الله.. التّعذيب باسم الله.
كلّ هذا باسم الله.
واسم الله برئ منهم ممّا يرتكبون باسمه.
(ميدل ايست اوملاين)