شعرية الكتابة في ديوان «عين نحات أعمى» للمغربي محمد العناز
صالح لبريني
يعبّد الشاعر محمد العناز مسار تجربته الشعرية، بجمالية نصية إبداعية تنحت مقولها الشعري من علاقة الذات بالذات، كمقوم من مقومات التعبير الذاتي عن الهموم والانشغالات، التي تؤرق الشاعر من حافة، ومن حافة أخرى الصلة المتوترة، التي تربط الذات بالعالم، هذا العالم الموشَّح بالسواد والخراب، الطافح بثقافة اللامعنى في ظل انعطافات حضارية خطيرة تمر منها الإنسانية. من هذا المعطى يخلق الشاعر رؤيته الشعرية ذات الأبعاد الجمالية والفنية، الشيء الذي يدفعنا إلى أن مطاردة هذه العين الشعرية الحبلى بدلالات ومعان مختلفة والمستفزّة لبصرنا ومن تم لبصيرتنا العمياء، التي تحجب عنا جمال الوجود وعماه في لحظة واحدة.
(1) قصيدة النثر كأفق لحداثة الكتابة
إن شعرية الكتابة تنبعث من هذه الرغبة في خلق عوالم شعرية متخيّلة، أساسها مرجعيات وخلفيات إبداعية تنتصر لقصيدة النثر. هذه القصيدة المارقة عن المثال والخارجة عن طاعة الثبوتية والرافضة للبقاء في أغلال الجمود، وعمودية شعرية لم تعد تلبي نداء الذات ونداء العالم المتحوّل والمتغير، هي قصيدة تكتب الذات والعالم بأريحية لغوية تستمد روحها من بلاغة قريبة من الواقع، بعيدة عن المتلاشيات البلاغية المسكوكة، هويتها التمرد والعصيان، وأفقها حداثة كتابة حالمة، حَرِية بالحياة . كتابة تستشرف المجهول، وتخوض مغامرة الغوص والكشف والمعرفة، على اعتبار أن الشعر بحث أبدي عما وراء الطبيعة؛ المغرية بالسفر في مسالك موحية بالرهبة والاندهاش أمام عظمة الوجود ورغبة الموجود في القبض على هذا الغامض في الذات والعالم. من هنا يمكننا القول إن ديوان «عين نحات أعمى» عمل شعري يخلق كينونته الإبداعية من صلب هذه الكتابة المغامرة، ويشرع أسئلة مرتبطة بالكينونة في تجلياتها الوجودية، وبالإبداع كقلق سرمدي يصاحب المبدع منذ توقّد الشرارة الأولى لحرقة الكتابة المنبثقة من وعي بأهمية الأثر، الذي يخلّفه الإنسان في الحياة، فالنص الأثر – بتعبير رولان بارت – هو النص الحافل برؤية عميقة ذات بعد إبداعي للإنسان والعالم، في طرح فلسفي يعمّق من إشكالات الذات، ويظل في حيوية أبدية تتحقق، انطلاقا مما يطرحه، جماليات إبداعية منفلتة من التحديد، فكلما قرأ النص ازداد تملصا وانفلاتا، نظرا لقدرته على احتمالات تأويلية عديدة، وهنا تكمن حياة النص المبدَع. هذا الأمر يسري على هذا الديوان الطافح بسؤال أنطولوجي يتعلق الأمر بالخطيئة الآدمية، التي شكّلت وتشكّل على مرّ العصور والحضارات استشكالا وجوديا يقض مضجع البشرية، ليُقرِنَها بالبحث عن خطايا الذات في كون مترع بالفجائع والهزات، ذلك أن خطيئة الذات من خطيئة آدم. هذه الذات المتخلّقة من لعنة سفينة نوح، وكأن الشاعر يشرِّح لنا ذاته النابضة بالخطايا بمشارط الاعتراف، والإقرار بأن هذه الخطيئة الآدمية أسلمته إلى ما هو أفظع، وذلك في سبيكة سردية زادت من درامية الموقف من الذات والعالم يقول: «أنا عين الخطيئة، أحمل وهم الحقيقة، فلا تصدقوني مهما قلت، لأني أتوهم دوما أشياء لم تكن، وقد ولدت من لعنة سفينة نوح، أنقذتني من الطوفان، لكي تسلمني إلى ما هو أقسى منه». فعين الشاعر عين تكتب سيرة الذات المتصدّعة والمتشظية في حياة ضلت عن الحياة، دلالة على الضياع والحيرة الأبدية، التي تلف هذه الكينونة المطوّقة بسياجات متاهات الوجود المفضي إلى الذي يَسِمُ طفولة مغتصبة باللامبالاة وعدم الاكتراث بكينونة في بداية التشكّل يقول:
«عينان تائهتان
لهما دمع شمع
يطل منهما الخوف
أين الطريق إلى البيت؟»
فعين الكينونة المصابة بِعَمَشِ الرؤية، بالخوف والمحنة، كتاب مفتوح على عذابات الإنسان، بعد أن قذفته سفينة نوح لوجود فاقد للمعنى، حيث الذوات منشغلة ببكائها الداخلي دليل على محنة الموجود في الوجود. والشاعر محمد العناز وهو يخلق تجربته في خطاب شعري منشغل بالكينونة في أبعادها الأنطولوجية، اعتمد في الصوغ النصي على قصة خطيئة آدم، الذي اقترف جريرة الأكل من الشجرة المحرّمة، ليقذف به في عالم موبوء بظلامية الفكر وعماء العاطفة، ذلك أن هذه العين المتعددة الملامح تحمل في طياتها بصيرة ثاقبة تمنطق الشعر وتشعرن المنطق ولكن بلغة الحلم، إنها عين بصيرة حالمة في ليل بهيم يتوغّل في الفراغ لتعثر الذات مثقلة بنعش الحلم دلالة على الخيبة والانكسار الذي يلحق الكينونة يقول:
«عينان ساهرتان
تتجسسان من وراء ستار النافذة
على حلم يتشكّل من ثمالة السواد
في ليل مقيم
يتوغل في الفراغ وأنا كالسراب
أركض وراء السراب
كلما قبضت عليه انفلت
أحمل فوق ظهري
نعش حلم
لا أعرف أين أواريه»
فهذه اللاأدرية تكشف عن عمق الأرق والعذابات التي تتكبّدها الذات في ظل هذه الخسارات التي تكرع كؤوسها المترعة بثمالة اليأس، الذي يكون غيمة عبْرها تنبعث الذات وأرق الحلم يهدد هذه الكينونة، إنها ذات مترددة، شاكّة، متشرّدة في كون غارق في ظلامية فكرية وتغييب تام للعقل/ المنارة التي تضيء عتمات الرؤية والروح، هاجسها الترحال في جغرافيات منذورة لسرائر اليتم، وتنقّب عن وجودها في حياة الصبوات، فتزداد دهشة ومغامرة في إبداع خطاب شعري يفكّك قلق الوحدة، ويوقظ القصيدة من غفوتها حتى تعانق رؤيتها الشعرية الباذخة بالحلم ومطاردة خيط الأفق، بعيدا عن شكلية محنّطة، لخلق تجربة شعرية تجاور الألم ـ ولا نقصد به المرضي ولكن الألم الإبداعي – المشّعّ بحرقة الكتابة الشعرية المفتوحة على المجهول و»الما بعدي».
(2) حداثة الكتابة:
إن دال العين يشكّل عصب التجربة الشعرية، وهي عين مشرعة على حمولات تأويلية؛ تخصّب الخطاب وتفتحه على التحليق في عوالم كتابة شعرية ؛ تحقق جمالياتها، انطلاقا من عدة آليات تعبيرية تشحن اللغة بطاقات تخييلية، وتجترح مسالك للقول الشعري، ولعل الوقوف على مدلولاتها، فهي عين تطارد الذات المحلقة بأجنحة وراقصة، وتنصب الفخاخ وتعتقل الهواء إنها عين خانقة، في حين تحمل عين الثقب رمزية الإبحار في الداخل والغوص في الكوامن البعيدة، في حين تدل عين المحبة على كونها وسيلة لِتَماهِي العاشق مع المعشوق في صورة وجدانية، أما عين المرابي فتحيل على البهتان والكذب وتزييف حقائق التاريخ . وحتى لا نطيل نؤكد أن دال العين يطفح بمدلولات، وفق سياق الكلام الشعري، لأن غايتنا من هذه المقاربة، الوقوف على جماليات الكتابة عند الشاعر محمد العناز، من خلال هذه التجربة، ولقد أشرنا سابقا أنه اعتمد على العديد من الآليات من بينها:
– آلية التذكر التي لعبت دورا في مفتتح الديوان كمقوم من مقومات الكتابة الشعرية، إذ كانت الطفولة طريقة لحماية الذات من التيه والضياع في متاهات حياة مظلمة وقاتمة يقول:
«يتذكر أنه كان في الزحمة
يده في يد أمه
لمح الدمية خلف الزجاج إليها أسلم نفسه»
إن فعل التذكر ما هو إلا إحالة ضمنية إلى البحث عن ذات مستلبة في حياة تخنق الروح والعواطف ومشاعر الأمومة، وفي اللحظة ذاتها صرخة في وجه هذا الواقع.
– آلية الوصف: وهي من الأدوات التعبيرية التي تلجأ إليها الذات لتقريب صورة الذات وهي تتوغل في الفراغ كعربون على التشظي الذي تحياه يقول:
«تتجسس عيناي عليه
يمشي في الطرقات
بقدمين حافيتين
يتوغل في الفراغ وأنا كالسراب»
وهي تقنية أسلوبية تزيد التجربة درامية طافحة بأسئلة حارقة حول مصير الكينونة في واقع هلامي، وتشحن الخطاب الشعري بطاقات تصويرية مدهشة وذات دلالة عميقة، حيث يروم الشاعر إلى اقتناص لوحات شعرية بنكهة تشكيلية تضفي على التجربة جمالية بنفس سينمائي، والديوان ممتلئ بهذه الآلية التي تفتح النصية على سردية مشعرنة.
– آلية السرد : فالمنجز الشعري ينطق بهذه الخصيصة السردية التي تمنح التجربة طابع الانسيابية التعبيرية والأسلوبية بسمات شعرية، سواء تعلق الأمر بالصورة الشعرية التي تمزج الواقعي بالمتخيل لنسج متواليات حدثية يقول:
«أنا الشاهد الوحيد
على سكتة القلب التي أصابت الموت
حين أمتطي سفينة نوح
من دون أن أكترث بصحة الوقائع»
– آلية الحوار: يشكل الحوار بؤرة جوهرية في الخطاب السردي، تسهم في إعطاء دينامية لتفعيل وتفاعل شخصيات النص داخل مكان وزمن معينين، وإبراز المواقف، والشاعر محمد العناز اعتمد على هذه الآلية في حوارية شيّقة بين الذات الشاعر والنوتي وحورية البحر حول البحر، وقد أدت إلى الوقوف على رؤية كل أطراف الحوار بلغة شعرية موحية تحمل معانيها العميقة يقول:
«يقول النوتي: عين البحر تشبه البياض
لا مقلة له
يحرس مملكة الغرقى
قالت حورية محاذاة الزبد:
عين البحر تكاد تسرق الأزرق
من جلد السماء
قال طفل:
لم يتعلم بعد كيف يكون طفلا
عين البحر لها شكل يقطين أخضر»
فالآلية الحوارية كانت بمثابة المحفّز للكشف عن تصورات المتحاورين التي لفّت حول دلالة البحر الذي يبقى – كما قالت الأسطورة ـ مغامرة للإبحار في العوالم الغامضة والمجهولة في الكون والذات الإنسانية.
على سبيل الاختتام: مهما يكن فإن التجربة الشعرية للشاعر محمد العناز ثرية بطروحاتها الجمالية في كتابة نصية شعرية تنماز بأبعادها التأويلية المفتوحة على القدرة في اكتساب أحقية الوجود ضمن الشعرية العربية المعاصرة، نظرا للخلفيات الثقافية والعمق الرؤيوي اللذين يسيّجان الخطاب الشعري . وتبقى مقاربتها محاولة للقبض على هذه الجماليات الأسلوبية المفعمة بحياة الإبداع والجمال الخلّاق.
(القدس العربي)