إحسان عباس في «غربة الراعي»: السيرة الذاتية بين العنوان والقصد
فاضل عبود التميمي
اختار إحسان عباس «غربة الراعي» دار الشرق ـ عمّان 2006 عنوانا لسيرته منتزعا إيّاه من طبيعة حياته الأولى في قرية (عين غزال) الفلسطينيّة التي تقع على أحد امتدادات (جبل الكرمل) إلى الجنوب من مدينة (حيفا) على مسافة تقارب 25 كيلومترا، لينبسط أمامها السهل الساحلي الذي يمتد بموازاة البحر، فهي تقع حسب السرد في تلك السيرة «ووراء البحر إلى الشرق أرض جبلية، وأكثر أهل القرية مزارعون يملكون قطعا من الأرض موزعة في أرجاء السهل، وقطعا أخرى في الجبل يزرعون فيها كلّ ما يحتاجون إليه في موسمين شتوي وصيفي، وتقع بيوت القرية بين جبلين متقاربين في الارتفاع، جبل الرأس العالي في الجنوب، وجبل العرنين المتطامن في الشمال، وبينهما عينٌ هي مصدر الماء للقرية، وعلى مقربة من العين في وسط البلد ساحة عامّة تسمى المطامير؛ لأن فيها مطامير كانت إهراءات للغلة أيام العثمانيين، وفي القرية أربعة حمائل: (عائلات كبيرة) هي من الجنوب إلى الشمال: المناصرة، والعثامنة، والعيوش، والزياتنة، والأخيرة هي أسرتنا».
«غربة الراعي» غربة إحسان عباس في المدن التي عاش فيها بعيدا عن مسقط رأسه أعني: القاهرة، والخرطوم، وبيروت، وربما قليلا في عمّان. لماذا اختار إحسان هذا العنوان لسيرته؟ يكاد (الراعي) في مهنته الشهيرة أن ينفرد في خصيصة تميّزه من الآخرين، أعني حنينه إلى مهنته بعد تركها، وشعوره بالغربة حين يمارس عملا آخر، فهو مسكون بحياة من معه من الرعاة والأنعام، والطبيعة أيضا حتى تراه يتآلف مع قطيعه الذي يصبح جزءا من وجوده، وهذا ما أستشفّه من حنين إحسان عباس لعين غزال، ومن اعترافه الصريح بقرويّته المسكونة ببعض الصفات: «كنت فلاحا جلفا أغطي جلافتي بقشرة رقيقة من الحياء ومن الهدوء». ولعل الغربة ما كانت إلا بسبب شعوره الصادق بالمحنة التي عاشتها، ولما تزل تعيشها فلسطين، وهو القائل: «ازددت يقينا بأنّنا جميعا ضائعون حين تخلينا عن الزراعة والأرض». ولم تكن صفة الراعي التي أطلقها إحسان عباس على نفسه خاصّة به، فقد أطلقها على صديق محبّ له، وعلى صديقة له كانا من زمن الرعي الأول «وجدت أنّني فقدت الراعي الصديق موسى كما فقد ميلتون صديقه فاتّحدت الرؤية في بعض مظاهرها وكانت نوار تمثل لي الراعية المثاليّة». لعلّ النص السابق يحيل إلى جملة من التأويلات منها: أن الراعي محب لجماعته، والتشبيه الذي عقده إحسان عباس بين حاله وحال (ميلتون) الذي فقد صديقه يكشف ذلك بالتناص مع حكاية الشاعر الإنكليزي المعروف، وكذا حاله مع (نوار) الراعية.
ولعلّ الراعي في الريف العربي الوحيد الذي ليس له بيت يؤويه، فهو يسكن في بيت من استأجره، وجعله قيّما على ماشيته، والبيت في أدقّ معانيه وطنٌ لا يمكن نسيانه، وقد ظل هذا الشعور لصيق إحسان عباس في حياته كلها «لم يكن لي وطن أمارس فيه حق الانتخاب، والترشيح فظللت حيث أقيم على هامش الحياة الشورويّة والممارسة الديمقراطية». وكانت الغربة – على الرغم من الحفاوة التي لقيها إحسان عباس في الأرض التي وَطِئَتها عائلته- أغنيةً حزينةً تردّدت في خاطره لم يكن نسيانها سهلا «وكانت تتردّد في خاطري كلمات بيرم التونسي: وشبعت يا رب غربة، وكنت أنا وزوجتي نبكي في صمت، وكان الأطفال ينشجون».
بقي إحسان عباس وفيّا لقيم القرية حتى المرحلة الأخيرة من عمره، فقد كشف نصّ السيرة التي عاشها في الحياة، وعلى الورق أنّه استمر طويلا في «الخضوع لقيم القرية بدون محاكمتها، أو مراجعتها». وهذا إنْ دل على شيء إنّما يدلّ على تشرب روح البراءة الأولى في حياته، وإخلاصه التام للمرحلة المبكّرة من عمره تلك التي اتسمت برومانسيّة ريفيّة واضحة. كتب إحسان عباس سيرته بدفع من عدد غير قليل من أصدقائه حتى صار هاجسها يدور في نفسه ليستثير ذاكرته، فتوجه إلى أخيه (بكر) يسأله النصيحة فكان جوابه «لا أنصحك بذلك لأنّ حياتك تخلو، أو تكاد من أحداث بارزة تثير اهتمام القارئ وتطلعاته». ويرى إحسان عباس أنّ ما قاله أخوه صحيح فهو لم يشارك في أحداث سياسيّة، ولم يتولَ مناصب إداريّة، ولم يكن عضوا في حزب، ولم يكن مسؤولا عن مشروعات اقتصاديّة، وكأنّ كتابة السيرة الذاتيّة وقفٌ على السياسيين، والإداريين، والاقتصاديين ليس غير.
يرى جورج ماي مؤلّف كتاب السيرة الذاتيّة أنّ على الأديب أن ينشئ سيرته الذاتيّة كما ينشئ العصفور عشّه، أو القندس خصّه، أو ربما تنشئ أنثى العنكبوت بيتها، في إشارة دقيقة إلى أهميّة بناء النص السير ذاتي، والتفنن في تشكيله، والعناية التامّة في مضمونه، لأنّ النزوع إلى كتابة السيرة الذاتيّة بشكل عام، والكلام لماي أيضا، ربّما كان أعلق بالظروف الثقافيّة والتاريخيّة منه بالخصائص الفرديّة، وهذا ما يمكن تأمّله في البحث عن نزوع إحسان عباس نحو كتابة سيرته «غربة الراعي» أي أنّ الظروف الثقافية والتاريخيّة التي عاشها إحسان كانت كفيلة بأن تكون الحافز الحقيقي الذي دفعه لكتابة سيرته، وهذا لا يعني أنّ السياسيين وغيرهم لا جدارة لهم في كتابة السيرة فقد تكون ظروف قسم منهم الثقافيّة والتاريخيّة حافزهم الأكبر في كتابتها، لتظل السيرة شكلا من أشكال تمثيل الذات والتعبير عن ظلالها، ليس في حاضرها إنّما في ماضيها الذي كان حصيلة تجارب، ومواقف أمكن رصدها ثمّ استعادتها في لحظات لا تخلو من احتدام حادّ مع الذات ونوازعها.
كان القصد من كتابة سيرة إحسان عباس إذن منوطا بشعوره في «نقل جلّ التجارب التي واجهتُها بصدق، كما أنّي لست أرمي منها إلى تبيان آرائي، ومواقفي من قضايا كبرى، أو الإجابة عن أسئلة مهمّة تعرضت لها الأمة العربية». وهو يعتقد أن كاتب السيرة يكتبها من أجل أن يوجد رابطة ما بيننا وبينه لكي يحدّثنا عن دخائل نفسه، وتجارب حياته حديثا يلقى منّا آذانا واعية؛ لأنه يثير فينا رغبة في الكشف عن عالم يجهله، فضلا عن أنّ كتابة السيرة في النهاية تخفّف العبء عن كاتبها حين ينقل تجربته إلى الآخرين، فهي متنفس طلق للفنان الذي يقص فيها قصّة جديرة بأن تستعاد، فهو في معرض تسويغ كتابة السيرة هنا كشف عن تواضع في نظرته إلى الكتابة السير ذاتيّة، صحيح أنّه لم يكن بحاجة إلى الكتابة ليظهر على رؤوس الملأ ما كان أتاه من أفعال، أو صدع به من آراء أراد نقلها إلى الآخرين كي يفيدوا منها، ولكنّه كان بحاجة إلى مواجهة نفسه إزاء مراياها كي يكون على مسافة واحدة قريبة ممّا فعل، وهذا يعني أنّ صاحب سيرة «غربة الراعي» لم يكن متبجّحا بما أنجز، ولكن من الضروري الإشارة إلى أنّ كتابة السيرة – أي سيرة- والحال هذه مساءلة حقيقيّة للذات، وعلاقتها بما يحيطها وصولا إلى مقاربة العالم كي يسهم من خلالها في إعادة تنظيم حياة سابقة على وفق مبادئ الفن، وآليات الصوغ الإبداعي، فهو يعيد صياغة ما مُثّل على مسرح الحياة، أو يقترح تمثيلات جديدة لتلك الحياة تنسجم مع ما في حياة ما بعد السيرة من جماليّات يتمّ استنطاقها بالارتداد إلى الماضي، وتشغيل عناصره القابضة على حسّاسيّة التخيّل، وهي تلتقط عبر مجسّات متعدّدة ما يرغب سارد السيرة في تمثيله حبّا للحياة، أو كرها لإشكالاتها، أو نقدا لمؤسّساتها على وفق ما هو متاح من حريّة، أو رؤية تخيّليّة تأخذ بالكلمات نحو جمال التعبير ضمن ما يسمى بالممارسة الإبداعيّة التي تكون السيرة الذاتية من غير شكّ جزءا منها.
(القدس العربي)