سيكولوجية الإنسان العربي بين تبخيس الذات وتعظيم السيد

الهام الطالبي

في كتاب مصطفى حجازي «التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»، نضع أيدينا على مكامن الخلل في الوعي الاجتماعي لدى الشعوب العربية ولماذا تحارب الأفكار التغيرية وترفضها، معتبرة أن كل من يحمل تلك الأفكار يسعى إلى تهديد أمنها، كيف تختار شريحة مهمة وجدت في التخلف راحتها النفسية، التحايل على متسلط عبر الكسل واستعمال خطاب الوعود الكاذبة نفسه، وكيف ساهم الاستعمار في خلق إنسان مستلب ينظر إلى ذاته نظرة تشيئية؟ لتسير بذلك الأنظمة الاستبدادية على منوال المستعمرين نفسه وتستمر في إنتاج ذوات تستلذ بتعذيبها وتقدس جلادها.
رغم أن دراسة حجازي تتناول المجتمع اللبناني، غير أني في كل مرة أعود إلى صفحات هذا الكتاب، أحس بأنه يلامس جراح المجتمعات العربية… في كل سطر من سطوره أجد ذلك الإنسان المقهور الذي أقابله في الجامعة أو في الشارع أو أشاهده على شاشة التلفزيون.
حجازي يشرح الذات العربية باحثا عن الأسباب التي تدفع الإنسان المقهور إلى إدانة الآخرين وإنحاء اللوم عليهم، ليخلص في دراسته للتخلف الاجتماعي إلى أن لب الشعور الاضطهادي يكمن في التفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخليا، معتبرا أن الإنسان المضطهِد لا يستطيع أن يكتفي بإدانة ذاته، بل إنه بحاجة إلى إدانة الآخرين ووضع اللوم عليهم، انه لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية ذنبه، لأن العدوانية تهدد وجوده بالانفجار، فيصب عدوانيته فيهم ويجعلهم ممثلين فيها، وهكذا لا يجد أمامه من سبيل إلا اتهام الآخرين بالذنب والعدوانية، وتحويل الآخر إلى مصدر للعدوانية يبرر الاعتداء عليه يصبح العنف لديه مشروعا.
يستمتع المقهور بدور الرضوخ والتبعية في علاقته بالسيد، لذلك فإن شيوع تصرفات التزلف والاستزلام والمبالغة في تعظيم السيد، اتقاء شره أو طمعا في رضاه، راجع إلى أنه يعيش في عالم التخلف، الذي يتسم بالتسلط واللاديمقراطية والذي يختل فيه التوازن بين السيد والإنسان المقهور، ويصل هذا الاختلال حدا تتحول معه العلاقة إلى فقدان الإنسان لإنسانيته، وانعدام الاعتراف بها وبقيمتها، فتنعدم علاقة التكافؤ لتقوم مكانها علاقة التشيؤ.
يشير حجازي إلى أن السيد والمستعمر وجهان لعملة واحدة، فكلاهما يدخلان إلى عقول وبيوت المستعمرين ووعيهم بأنهم ليسوا أناسا بل أشياء، وبقدر ما يبخس الإنسان المقهور ويفرض عليه الانحطاط والشقاء، يصبح اتكاليا مستكينا مستضعفا، وهذا بدوره يؤكد في ذهن المتسلط أسطورة تفوقه وخرافة غبائه وعدم آدمية الإنسان المستضعف.
يكشف المفكر اللبناني عن طبيعة العلاقة بين المقهور والمتسلط معتبرا أنها تبلغ أشد درجات السادومازوشية، أي قبول التسلط والرضوخ له، في جو من الإفراط في رهبة جانب المتسلط والإعجاب به في آن معا، وينتج هذا الإفراط عن انشطار القيمة الإنسانية وتوجه كل القيم الإيجابية بالقوة والممانعة. إن الاحكام التبخيسية المسبقة التي كونها المستعمر والمتسلط الداخلي عن الشعوب المقهورة، جاعلا من خصائص مرحلة واحدة طبيعة ثابتة تلتصق بهذه الشعوب، ما يبرر استغلاله وتسلطه ووصفها انها جماهير منحطة لا تستطيع أن تحكم نفسها، أو تستغل إمكاناتها وثرواتها، لذلك لا بد من حاكم متسلط، ولا بد لها من مستغل حليف له.
وتشير الدراسة إلى أن المتسلط يحرص على أن يغرس في نفسية هذه الجماهير مشاعر إثم ودونية، ويزدري إنسان العالم المتخلف ذاته ويخجل منها، ويود لو يهرب من مواجهتها، وهو يكيل النعوت السيئة لنفسه متهما إياها بالتقصير والتخادل والجبن.
وبمقدار ما ينهار اعتباره لذاته يتضخم تقديره للمتسلط ويرى فيه نوعا من الإنسان الفائق الذي له حق إلهي في السيادة والتمتع بكل الامتيازات، تلك علاقة رضوخ مازوشي من خلال الاعتراف بحق المتسلط بفرض سيادته ومن هنا تبرز حالة الاستلاب والتقرب من المتسلط.
ان المتسلط، سواء كان مستعمرا أو مسؤولا فإنه يغرس ويرسخ في ذهن المتخلف أفكارا بأنه لا مناص من الخروج من هذا المأزق الوجودي سوى التقرب ما أمكن من المتسلط، والتنكر الشامل للذات ولانتماءاتها التاريخية والاجتماعية، ما يولد حسب حجازي حالة من الرضوخ السوداوي لقدر مكتوب واتخاذ الدفاعية ضد التغيير.
يذكر الكاتب تجربة فرنسا الاستعمارية وكيف كانت تكرس لدى شعوب مستعمراتها النظرة التشيئية لذاتها وتفوقها عليهم، فجعلت منهم بذلك شعوبا مسلوبة فاقدة لإرادتها، وهذا الأمر لا يختلف إذا انتقلنا للحديث عن علاقة المقهور برب عمله، إنها علاقة تنبني على الطاعة.
أمام كل هذا الاستعباد، فإن الإنسان المقهور ينتقم بالكسل والتخريب أو الرمزية والنكات، ما يخلق ازدواجية في العلاقة، ورضوخا ظاهريا وعدوانية خفية. الإنسان المقهور يخاطب المتسلط بلغته نفسها. الكذب والخداع والتضليل، هي قوام اللغة التي يخاطب بها المتسلط الجماهير المقموعة، فخطاب المتسلط عبارة عن وعود معسولة وتضليل تحت شعار الغايات النبيلة الوعود الإصلاحية والخطط الإنمائية كلها هراء اعتادت عليها الجماهير، وهي بدورها تخادع وتضلل حين تدعي الولاء وتتظاهر بالتبعية. إن حياة الإنسان المقهور، حسب الدراسة، لا تخلو من عقدة النقص والعار، مع اضطراب واصطباغ التجربة الوجودية بالسوداوية، وهذه جميعها تدفع الإنسان المقهور نحو الاتكالية والنكوصية والقدرية والاستسلامية وطغيان الخرافة على تفكيره، فعوضا من تفكير وتحكيم العقل والعمل على تغيير وضعيته، يلجأ المقهور إلى التحايل ويستمتع بحياة العبودية.
تجسد الإدارة نموذجا لعلاقة الإنسان المقهور بالمتسلط، فالموظف يتعالى على من هم دونه ويقابلهم أحيانا بالصد والنبذ الصريح، وهذا ما ورد أيضا في دراسة حجازي لعلاقة المقهور بالإدارة، فالموظف ما أن يقم بعمل للمقهور فإنه يعتبر ذلك منة تجاه صاحب الحاجة، وليس واجبا تمليه عليه وظيفته، وهو في ذلك يكرر موقف رئيسه منه، وهذا الاخير يكرر موقف المسؤولين الأعلى منه، ليتخذ الأمر في النهاية علاقة استعلائية استعبادية، وليست علاقة تراتبية تحكمها الواجبات والحقوق وتضمن الحقوق لكل المواطنين.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى