الأميركي توم سلاي يقع على الشعر بين الأنقاض

هدى فخر الدين

توم سلاي شاعر أميركي صاحب أكثر من تسع مجموعات شعرية. يعمل أستاذاً للشعر والكتابة الإبداعية في جامعة هنتر في مدينة نيويورك. وإضافة إلى كونه شاعراً وأستاذاً جامعياً، تستهوي سلاي المغامرات الخطرة. فهو يقوم من وقت إلى آخر برحلات صحافية إلى مناطق النزاعات العنيفة كالصومال والعراق أو إلى مناطق تشهد أزمات وكوارث إنسانية كمخيمات النازحين السوريين في الأردن ولبنان. يعود من تلك الرحلات ليكتب مقالات عن مشاهداته وملاحظاته ينشرها في صحف ومجلات كـ «فيرجينيا كوارترلي». إلا أن سلاي لا يدعي معرفة خاصة بالأمكنة أو الأزمات ولا قدرة مميزة على التحليل أو الاستنتاج، بل على العكس من ذلك، يحتفي في عمله الصحافي بدهشته ونزوعه إلى البحث عن لحظات أو مفارقات شعرية في ما يراه ويسمعه.
في مجموعته الشعرية الجديدة: «المحطة زد» الصادرة عن دار غراي ولف (2015)، يستلهم سلاي موضوعات قصائده من تلك الرحلات الصحافية الصعبة. وربما لذلك قرر أن يسمي المجموعة «المحطة زد»، آخر المحطات حيث ينتهي العالم في خراب ويفشل في استعادة شيء من إنسانيته. على الأقل هذا ما توحي به الصورة التي اختارها للغلاف: صورة مشهد من مدينة السليمانية، خضراء سالمة، أُسقطت عليها صورة أخرى للمشهد نفسه تبدو فيه المدينة قاحلة ودخان القذائف يلوح في أفقها.
تنبع قصائد هذه المجموعة من الحيرة التي تعتري الزائر الدخيل عندما يجد نفسه شاهداً على فواجع كبيرة. يعبر سلاي عن هذه الحيرة في مقالاته الصحافية لكنه يجعلها مادة للشعر في قصائده. فكيف للشاعر أن يسجل موقفاً من مأساة يأتيها زائراً أو يأتيها طوعاً؟
قصائد سلاي لا تكتفي بكونها شهادات أو تقارير. فهو لا يخاف من الاعتراف بأن نظرته وهو يعاين المآسي كصحافي أو مراقب، نظرة قاصرة. فهناك الكثير مما يجهله أو يخفى عليه. لذا لا يفرّط سلاي بالشعر من أجل التعليق أو التوثيق أو التأريخ. لا يدع لقصيدته أن تتكئ على الموضوع مهما يكن ذلك سهلاً ومغرياً. يظل ملتزماً الجملة الشعرية التي لا تفجع فيها ولا مبالغة. فالشعر قادر على النفاذ إلى ما هو أبعد من الخبر أو الحدث. وفي الشعر تصبح حيرة المراقب أو الشاهد دليلاً هادياً. ويصبح الذهول خيطاً رابطاً ما بين الخاص والعام، الماضي والحاضر، المألوف والجديد الصاعق.
وربما لذلك يستأنس سلاي في رحلاته الصعبة هذه بأصوات شعراء آخرين. ففي جزء من المجموعة مهدى إلى باشو، الشاعر الياباني الذي عاش في القرن السابع عشر، يتّخذ سلاي من باشو رفيقاً له في رحلته في العراق. ومَنْ أفضل من باشو شاعر الهايكو الذي لا يقبل الهذر ولا الحشو رفيقاً في بلد غارق في فوضى الحرب؟
في هذا الجزء من المجموعة يستعين سلاي بمقاطع من النثر، يسرد فيها بعض ما لاقاه في بغداد والبصرة وعلى المعابر والحواجز العسكرية ولكنه يعيد تصوّر ذلك كله في قصائد محكمة ثاقبة تتخذ من تفاصيل المشهد الكبير مادة لها. وطبعاً هذا المزج بين النثر والشعر مستلهم من رحلة باشو «الطريق الضيق إلى الشمال العميق».
وكما في المجموعة إحالات شعرية أخرى على الشاعر البولندي ألكسندر وات والشاعر الإنكليزي جون دون، إلا أن الحضور الشعري الأكبر يبقى لشيمس هيني الشاعر الإرلندي الكبير. يفتتح سلاي مجموعته باقتباس من هيني وينهيها بقصيدة في ذكراه. الاقتباس الذي يفتتح المجموعة من قصيدة لهيني بعنوان «نعناع»:
«لندعْ رائحة النعناع تفوح عَبِقةً على سجيتها
كالسجناء يسرحون في ساحة السجن
كهؤلاء المهملين الذين ننقلب عليهم
لأننا خذلناهم بإهمالنا».
رائحة النعناع الخفية تلك التي تفاجئ حواسنا إذا ما انتبهنا إليها، خفية وصادمة في الوقت عينه. إذ إنها تنبهنا إلى غفلتنا. رائحة النعناع وفق هيني تفتح أعيننا على أشياء أمامنا لم نكن نعرف أنها تفوتنا. وهكذا الشعر. هذه الأسطر من هيني تكشف لنا خطة سلاي في هذا الكتاب. فهو يرحل في حقول الألغام على هدي الشعر، موجهاً نفسه نحو دقائق المشهد وتفاصيله حيث يكمن الشعر.
يلملم سلاي من مواقع التفجيرات ومخيمات اللاجيئن والمدن المنكوبة خرقاً يحيكها قصائد، وهكذا لا يدع للحدث التاريخي أن يهيمن على الشعر بل يعيد صوغ التاريخ شعراً. وها هو يؤكد لنا في قصيدة بعنوان «برهان الشعر» على أن الشعر هو الخيط الناظم، هو النظرة الثاقبة التي تتجاوز الحدث مهما كان جَللاً وتتغلب عليه. وما القصيدة إلا انطلاق بالموضوع ثم تغلب عليه في سبيل هذا «التناغم المحتوم» الذي يحوّل حتى الفاجعة إلى نسق أو نغم يوقظنا من غفلتنا.

برهان الشعر
ومن الديوان أختار هذه القصيدة التي تعبّر عن طبيعة تجربة توم سلاي.
أردت في البداية أن ينتهي بيَ الأمر ثملاً مرمياً على قارعة الطريق
وفي العشرين من العمر كدتُ أن أنتهي كذلك
بعدها كبديل عن الفودكا اخترت أن أعيش
وحيداً كناسكٍ أو كفيلسوفٍ وأن أتودد
إلى الفقر المدقع الذي كنت أشعر بأنه ينتظرني على أية حال
وبعدها جاءت تلك السنوات التي
سعيت فيها جاهداً لأجد ملجأً في ما هو عادي،
سنوات كمقص كليل يقص مربعات حذرة
وكانت تلك هي الأسوأ، السنوات الأسوأ على الإطلاق –
يمكنك أن تقول إن حياتي دائماً كانت
كلحاف مرقع يتمزق دائماً
حياتي خرق ببعضها البعض في حُلُم
الناس فيه والحيوانات والنبات والكائنات الخرافية
وحتى المعادن، كلها في تناغم محتوم
حلم منسي لأنه لا بد أن يُنسى
ولكني مع ذلك أظل أبحث بيأس، ونادراً
ما كنت أجد في الخِرَق: يداً مرفوعةً لتضربَ،
أو لتلاطفَ أو مرفوعةً فقط لتُرفع دون سبب –
وفي الذاكرة أيضاً، كنت أجد ألماً ما بعينه، شعوراً ما بالبرد أو بالدفء.
كم أحببت هذا التناغم في كل مراحل الشغف
والأصوات ما زالت تتحدث داخلي… ولكن بعدها، بدلاً من التناغم
لم يبقَ هنالك إلا خرق متناثرة على الأرض.
ربما هذا هو معنى أن تكون شاعراً.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى