عن القوة الناعمة والثقافة الخشنة

ابراهيم عبد المجيد

في السنوات الأخيرة مشي مصطلح القوة الناعمة دليلا على الإنجازات الأدبية والفنية شاملة السينما والمسرح والفنون التشكيلية والموسيقى وغيرها من مظاهر الإبداع. وهو مصطلح لا شك جميل ولست ضده. لكن الوجه الآخر للثقافة هو المشكلة. فالثقافة عرَّفها علماء اجتماع كثيرون لكن كل التعريفات تدور حول وجهي الثقافة.
الوجه الروحي ويشمل ما يسمونه الآن في مصر بالقوة الناعمة. والوجه المادي ويشمل الإنجازات المادية المختلفة في الحياة مثل الطرق والكباري والعمارات والحدائق والمتنزهات، وغير ذلك مما يحيط بحياة الإنسان ويصنعها من فضلك. ماذا جرى في القوة الناعمة؟ هل تراجعت؟ مؤكد تراجعت كثيرا في مصر خاصة في مجالات مثل المسرح والسينما، بينما تتقدم دائما في مجالات مثل الرواية والشعر. سبب تقدمها في الرواية والشعر أن أصلهما فردي ولا ترتبط بالمجتمع في آلية ظهورها إلا حين تصل إلى الناشر الذي إذا رفضها أو اعتذر عنها فهناك عشرات من الناشرين لا يرفضون، وهكذا يجد الإبداع الذاتي طريقه للنشر، سواء داخل مصر أو خارجها في لبنان مثلا أو العراق وسوريا سابقا للأسف. لكن المسرح والسينما منذ البداية يرتبطان بالآخرين. الإخراج والإنتاج وأماكن العرض. في مصر تدهور هذا كله إلا من محاولات للشباب سرعان ما تختفي لأن الإعلام لا يسلط عليها أي ضوء. لم نسمع عن مسارح جديدة على سبيل المثال. ومسارح الأقاليم الخاضعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، رغم كثرتها، شبه ضائعة فأكثرها يخضع لسياسة خائفة من المسؤولين. أما السينما فحدث ولا حرج عن مئات من دور السينما التي تم إغلاقها منذ الثمانينيات تحت دعوى حرمة الفن وكيف تم تحويلها إلى مولات وعمارات وورش ومصانع صغيرة أيضا. في الموسيقى حدث الأمر نفسه إلى حد كبير. ضاع عصر الطرب الأصيل إلى حد كبير وانتشر الغناء السوقي وصار ملازما لقطاع كبير من الشباب والناس عموما في المواصلات والمركبات، ولم تعد الأصوات الجميلة قادرة على مواجهة هذا الكم الفظيع من الغناء الهابط، الذي يجد له شاشات عرض تلفزيونية في قنوات كثيرة تملأ المقاهي أيضا. ورغم ذلك لا تزال القوة الناعمة. لكنها بالتأكيد ليست في قوتها أيام الملكية، وحتى الستينيات من القرن الماضي. كانت هذه الثقافة الروحية تقابلها ثقافة مادية على المستوي الرائع نفسه. فكان المُبتَعثون إلى أوروبا من الطلاب يعودون وشعارهم مصر قطعة من أوروبا.
ومن ثم كان نظام المباني هو نظام المباني في دول البحر المتوسط، وكذلك الشوارع والمتنزهات. كان للمعماريين الأوروبيين دور كبير في البناء، وحتى حين تقدم الوقت ومزج بعضهم بين العمارة الأوروبية والإسلامية أنشأوا أجمل وأعظم المباني، مثل بنك مصر والبنك الأهلي ومسجد إبراهيم ومسجد المرسي أبو العباس في الإسكندرية. استمر الأمر في الخمسينيات رغم بداية الخروج الكبير للإجانب، فالمصريون الذين تعلموا في العصر الملكي كانوا أحياء وكانوا لا يقلون عن الأجانب في هذا الفهم العالمي للبناء والشوارع والحدائق. ولم يكن ممكنا ان يتخلوا عما تعلموه.
انتشر شعارالقومية العربية لكن المصريين لم يجدوا عند العرب ما يضارع ثقافة البحر المتوسط، فظل الشعار سياسيا ولم يكن له أثر على الثقافة المادية، خاصة أن معظم بلاد العرب التي كانت دولا كاملة مثل، العراق وسوريا وتونس والمغرب كانت أيضا منفتحة على الإنجاز الأوروبي في العمارة والطرق والمتنزهات، سواء منها من دخل في مقولة القومية العربية، أم ظل خارجها. كان ذلك كله يحدث في مصر وغيرها في ظل الفترة الملكية وحوله حياة ليبرالية إلى حد كبير. حدث في مصر استيلاء لحكم العسكر بعد 1952 على مقاليد الحياة كلها، لكن كما قلت كان حتى العسكريون قد تعلموا في الفترة الملكية، فكانت علاقة الكثير منهم بالثقافة علاقة جيدة، وبعضهم مارسها كتابة وفعلا مثل ثروت عكاشة وسينما مثل عز الدين ذو الفقار وغيرهم كثير جدا، وتركوا الموسيقى تتجلي في أعظم صورها، فسمعنا موسيقى الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي وسيد مكاوي والحديث يطول. كان يهمهم فقط أن يكون لنظام الحكم نصيب من الغناء له وتأييده. الأمر نفسه حدث مع الفنون والآداب رغم تأميم السينما والمسرح والنشر والأوبرا. انقلبت الأمور مع السبعينيات وبداية عصر السادات، الذي رفع شعار الدولة الإسلامية. وهكذا دخلنا في متاهة الفوضى والعشوائية. لم تعد أوروبا ولا البحر المتوسط مثالا ولا هدفا للثقافة المادية. أصبح المال هو الهدف من البناء. ساد فكر المقاولين عديمي الثقافة، مع فكر الحكام الجدد فبدأت أكبر عملية إنهاء على البحيرات في مصر والأرض الزراعية، وما ذكرته من هدم السينمات، وبدأ التقليد الأعمى للعمارة الأمريكية في شوارع ضيقة للغاية، وبدأ بناء المساجد تحت العمارات يعفي من كل المخالفات في البناء، وبدأت الطرق العشوائية وأصبحت الثقافة المادية في مأزق كبير بسبب تضافر المال مع الفكر السلفي الوهابي، بعد القفزة الكبيرة في أسعارالنفط بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 وظهور الأغنياء الجدد من الانفتاح الاقتصادي الذي قام على بيع مقدرات الأمة من المصانع والمزارع . باختصار التفتت مصر بوجهها من أوروبا والبحر المتوسط إلى الجزيرة العربية التي ليس فيها شيء من الثقافة المادية، لكن فيها ثقافة روحية هي الوهابية، فصار المهم هم تغيير أسماء الشوارع إلى أسماء إسلامية كما يقولون وأسماء العمارات المخالفة صارت عمارات الرحمن والصفا والمروة وغير ذلك كثير جدا، فلم تبق ليبرالية الملكية ولا قومية عبد الناصر! لم يحدث عبر هذه السنوات الأربعين أن أقيمت حديقة ولا بقيت حديقة على حالها. ثم تطور الأمر إلى هجوم كاسح على الفلل القديمة في الأحياء الراقية مثل الزمالك والدقي في القاهرة وغيرها كثير في بقية المدن. هل كان لذلك أن يحدث وحده؟ طبعا لا. ساندت الدولة هذا الهجوم الشرس على الوجه الأوروبي لمصر وتحول كل شيء إلى العشوائية، وطبيعي جدا أن يواكب ذلك انحطاط في الفنون السمعية مثل الموسيقى والغناء، بل يتم التقليل من أهمية المسرح والسينما ونفيهما تقريبا. باختصار صارت الثقافة المادية ثقافة خشنة بشعة وألقت بظلالها على الثقافة الناعمة ولا تزال، فنحن لا نسمع كل يوم إلا عن مولات وطرق جديدة ولا نسمع عن حدائق ولا مكتبات كبرى ولا متاحف ولا سينمات، ولا يفكر أحد أن يبتعد عن المدن إلى الصحراء يبني فيها مجتمعات جديدة، لكنها المدن تتم الإغارة على أجمل ما فيها من بنايات لتصبح شيطانية فيتشيطن البشر ويمشون وراء الصراخ والعويل من الفنون.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى