التصميم المنهجي وبؤرة الفعل التربوي في كتاب «رحلتي إلى أمريكا»

عبد الحفيظ بن جلولي

ليست الرّحلة سوى انتقال في المكان، لكن ما يميّز رحلة عن أخرى هو التوثيق، إذ يشعر من يوثّق رحلته، أو هكذا يخيّل إليّ، أنّه يستمر في حركته الرِّحلية عبر المخيال، فهي تنتهي واقعا وتستمر كلذة سفر، ولهذا أشعرني وأنا أتلقى سردا رحليا، ممتلئا بإحساس التموقع مكان المرتحل لشدّة ما يكشفه من إحساسه الفائق بالمكان وتلذّذه بخباياه، التي تقوده إليها رغبته في معايشة أقصى حدود حركة المكان، ومنه نستطيع أن نفهم لماذا يعرف بعض الرحّالة عن المكان المُرتَحل إليه أكثر ممّا يعرفه عنه أهله، وتلك لذّة القراءة في الرّحلة، وهو ما لمسته في «رحلتي إلى أمريكا» لفوزي مصمودي.
في التّوطئة يذكر فوزي ولعه بكتب الرحّالة، «أذكر أنّني منذ صغري كانت تستهويني كتب الرحّالة والمغامرين»، وهو ما يعني احتفاظه بالجانب التخييلي في الرحلة، الذي يستفز فيه جانب خوض غمارها وتحفيزه على كتابتها، وهو ما يعني بحثه عن جوهر الرّحلة او الفلسفة التي تقوم عليها، «ورغم يقيني أنّ قيمة الرحلة تكمن في ديمومتها، وأنّ هذه الديمومة لن تتأتى إلا إذا قام صاحبها بتدوينها»، الديمومة والتدوين، عنصران مهمان في الرحلة يرتبط كلاهما بالآخر، لكن طرح فوزي لهذه الرؤية يجعلنا نتساءل حول علاقة السيرة بالرحلة، وهل تمثل الرحلة جزءا من السيرة؟ أم هي جزء قائم بذاته؟
من حيث المنهج، لقد ساعد فوزي في كتابته لهذه الرحلة كونها ذات طابع علمي صرف، وأنّها كانت مرتّبة وفقا لبرنامج خاص يخضع لـ «برنامج الزائر الخاص»، الذي عكفت هذه الدولة على تنظيمه منذ عام 1940، وترعاه وزارة الخارجية الأمريكية/مكتب الشّؤون التعليمية والثقافية، وموضوع البرنامج يشمل تطوير المناهج والتّعليم المدني، ودامت الرّحلة ثلاثة وعشرين يوما. الزيارة منتظمة وفق برنامج مضبوط بتواريخ وزمن محدّدين ووجهات معيّنة بدقّة، تخدم كلها هدف الزيارة المتعلق بالمناهج والتعليم المدني، والرحلة المصمودية للديار الأمريكية، على الأقل بالنسبة لي، لا تمتلك أهميتها فقط من سردها لمجريات الرحلة وتصويرها للأماكن وخلاف ذلك، بل أعتقد أنّ فوزي ضمّن رحلته بعض الومضات التي تعمّق الرحلة من حيث كونها فسحة فكرية/استكشافية في فضاء الآخر، ومن ذلك ذكره تأكيد نيل ليندمان (مستشرق) على «التعرف الدقيق على مصطلح الزيبان»، وهو ما يعكس الاهتمام البالغ بالمكان، لأنّ الزيبان بالنسبة له ليست الجغرافيا فقط، وإنّما هي الثقافة والعادات والتقاليد، وهو ما يساهم في كشف مفاتيح الشخصية الوطنية بالنسبة إلى الباحث الأمريكي.
في زيارة الكونغرس تحدّث فوزي عن بْرَاد توماس، في لجنة التربية والقوى العاملة، وتطرّق إلى كيفية عمل اللجنة، لكن المرتحل يورد في معرض كلامه عن توماس مصطلح «ناقش»، وهو ما يعني أن الـ« و. م. أ» تؤسس لاستقبال ما قد يُفكَر به خارجها وتحتاجه، ليس للاستئناس به، ولكن للاستعانة به في تصحيح مسار الإصلاحات التربوية، ويذكر توماس أنّ الشعار القائم في البلاد في ما يتعلق بهذا الجانب هو «لا نترك طفلا مهملا»، وهذا منذ 2002، ولأجل هذا، يحتمل، أنّها، أي الـ« و. م. أ» أحدثت «برنامج الزائر الدولي» في مجال التربية، لكي تتعرّف على تجارب الآخرين، لكن في إطار التصوّر العام الذي تنسجه، لكي يصبح نظامها شاملا ومعمّما ضمن عولمة إيجابية نوعا ما، تأخذ ولو بجزء بسيط من خصوصيات المجتمعات الأخرى.
لا شك في أنّ التربية هي الأساس في إنتاج الجيل الأمريكي القائد والرائد، ولهذا يتحدث فوزي عن مأدبة وزارة الخارجية الأمريكية وعن جوان ستيكلر التي بيّنت في معرض حديثها أنّ «عدد التلاميذ – عامة – في الفصل (القسم) لا يتعدّى 20 تلميذا في الغالب». وعن شبكة الإنترنت التي تربط كل المؤسّسات التربوية، وبالنسبة للنظام التعليمي، أوضحت أنّ هناك المدارس الحكومية والمدارس الخاصّة والمدارس المنزلية، التي تمثل أنموذجا خاصا بالـ «و. م. أ»، «حيث أنّ الطفل لا يذهب إلى المدرسة بتاتا إلى غاية مرحلة الثانوي»، ويقوم الأب أو الأم مقام المعلم، ويمكن أن تضم أسرة ما عددا من التلاميذ. الواضح عبر ما ذكرته هذه المسؤولة، أنّ النّظام التعليمي يتعلق بشيء ذي أهمية بالغة وهو مركزية الطفل/التلميذ في عملية التلقي التربوية، حيث نظام الإنترنت يساهم في تدارك إخفاقات النظام التعليمي، ومنه التدخل السريع لإصلاح الخلل الطارئ وتركيز الجهود لتكون رافدا في كليتها وتنوّعها، لأجل تقوية مركزية الطفل/التلميذ على خريطة النظام التربوي، وهو ما يتطلب التخفيف في عدد الطلبة داخل الفصل الدراسي، ومنه كانت الحاجة إلى خلق نماذج تحتوي العدد المتزايد من الطلبة، لكن في إطار العدد القليل داخل الفصل أو الأسرة تحقيقا للشعار المجتمعي السابق ذكره. أما وزارة التربية في واشنطن، فلقد أورد فوزي عن دافيد بينزي، مسؤول كبير في الوزارة، أنّ لكل ولاية نظامها التعليمي الخاص، ويجوز لولاية أن تستفيد من نظام ولاية أخرى شريطة ذكر المصدر، وكل «ولاية تنجز كتبها الخاصة»، والملاحظ أنّ العامل الحاسم في التجربة التربوية الأمريكية هو التنوع، وتلاقح التجارب، وفق منهجية ذكر المصدر، وهذا لا يكشف سوى عن الرؤية الشاملة الاستراتيجية، للولايات المتحدة التي تهدف إلى إيجاد مجموعة من التصورات للعملية التربوية قادرة على إنتاج جيل أمريكي متعدّد ومتواصل، بحيث لو التقى تلميذ من واشنطن وآخر من كاليفورنيا لتبادلا وجهات النظر حول النظامين التعليمين المختلفين في وطنهما المشترك، وهو ما يجذّر عملية التواصل بين أجيال الـ» و. م. أ» ومؤسّساتها التعليمية، هذا من جهة، وتكريس ثقافة القبول بالتعدد من جهة أخرى، وهو ما يمثله على المستوى الذهني/الفكري أنموذج «الثانوية المتعدّدة الثقافات» التي «تقع في قلب واشنطن ويؤمّها طلبة قادمون من (50 بلدا) من مختلف قارات العالم، ويتحدّثون (40 لغة ولهجة)».
يبدو أنّنا ما زلنا بعيدين عن إيجاد تصوّر جامع مانع حول العملية التربوية، لأنّنا لم نستطع أن ننتج أو نتمثل ما هو منجز على ضعفه من العنصر التنظيري الوطني، وهو ما أكّد عليه فوزي في تدخل جيمي نولن مسؤولة مدارس إيدينا، من أنّه لاحظ «استدلالها المتكرّر بكبار المنظّرين في مجال التربية والتعليم الأمريكيين من القدامى والمحدثين».
حديث فوزي عن نقابة المعلمين بمنيوسيتا فيه من الجدّية ما يجعلك تدرك سبب تطور النظام التعليمي الأمريكي، حيث يتقاضى المعلم 4200 دولار، ويمكن حسب طلبه أن يدفع له الراتب بصفة سنوية كاملا في بداية الموسم الدراسي، لكن ما يلفت النظر حديث رئيس نقابة معلمي منيوسيتا عن دور النقابيين «في إعداد المناهج التربوية والكتب المدرسية»، وهو ما يعني أن التجربة وتراكم الخبرات، هما ما يمكن الاستفادة منه في تطوير كافة المجالات الحيوية في المجتمع ومنها قطاع التربية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى