سالمة صالح خاضت تجربة نوعية في أدب المرض
أحمد المديني
أليس من المفارقة أن تبدو الكتابة أحياناً مسعى لمقاومة المرض والمقامرة مع الزمن والجسد، لربح مزيد عمر، فيما هي ذاتها ضربٌ من الابتلاء، وليست دائما متعةً كما يخيل لبعضهم؟ يزودنا تاريخ الأدب، لنحصره في المعاصر، بأمثلة شتى عن أدباء وقعوا عُرضةَ أمراض، أغلبها عُضال، أو عاشوا مِحناً أنهكت أجسادَهم وواجهتهم بالضعف وإشكالية الموت، فلم يستسلموا، بالأحرى جعلوا حالتهم موضوعاً، تأملاً، أو تحليلاً، أو تشخيصاً فنياً.
الأدب حفيل بهذه النصوص، قوية عند الشاعر الفرنسي أنتونين آرتو(1896- 1946) عاش على حافة الجنون، وكتب أقوى أشعاره تحت تأثير العلاج بالصدمات الكهربائية. الروائية الإنكليزية فرجينا وولف (1882- 1941) التي انتهت إلى الانتحار بعد معاناة مع اضطرابات عقلية قالت عن المرض إنه: «إذ يحرمنا من قدراتنا، يدفعنا إلى القبض على الجوهري، على الأصوات، والروائح، ومشاهد العالم، في شكلها الأكثر تشذيباً». يحضر هنا بقوة رأي سوزان سونتاغ (1933- 2004) إذ عانت من سرطان الصدر، تحدثت عن الألم، خصوصاً في كتابيها: «المرض بوصفه استعارة» و «السيدا واستعاراتها»، من قبيل السرطان الذي يستعمل بشأنه قاموس حربي (خلايا تغزو)، (هجوم)، (اكتساح)، (استعمار).
الأدب في هذه الحالة، يتحول عند الكتاب إلى وسيلة لمقاومة قدَر محتوم، وبتعبير الروائي الفرنسي دانييل بيناك، فإن الكتابة هنا «ليست صياغة جمل، بل هي أن تقاوم بما هو متاح». أخيراً تُعد رواية الفرنسي فيليب لابرو (مواليد 1936) «La traversée» (العبور) أقوى نص دُوِّن في وصف الصراع من أجل البقاء، يصف فيه مؤلفه: «كيف بدءاً من غرفة العناية الفائقة انتقلتُ إلى معايشة تجربة الموت القريب، في عبور رأيت وسمعت فيه كل شيء» (1996). ولا يفوتنا أن نقف في سردنا العربي على نصين لافتين من هذا العيار، هما: «قلب مفتوح» لعبده وازن (2009) حيث لحظة الكتابة ذات الطابع السير ذاتي وأكبر، تبدأ من إفاقة السارد من عملية جراحية دقيقة: «فتحت عيني كما لو أنني أفيق من نوم طويل» معهما فتح باب التذكر على مصراعيه تعبر منه حياته مستعادةً وتتجاور فيه خطابات شتى، في نص مفتوح.
والثاني رواية «سماء قريبة من بيتنا» لشهلا العجيلي (2015) حيث البطلة تخوض، كجزء من مسار حياتها المركّب، محنةَ مقاومة السرطان وهي تعبر بوصفات علاجية صعبة تنتصر فيها الحياة أخيرا، بموازاة وتزامن أيضا مع المحنة الكبرى التي يمر بها الجسد الثاني (الوطن، سوريا) الذي يعيش دماراً وتطاحناً ما زالا مستمرين.
نقلة نوعية
حتى إذا وقفنا عند: «عام السرطان» (دار الجمل2107) وجدنا سالمة صالح تحقق نقلة نوعية مقاربةً وطريقةً، وغرضا، أيضا. لا شك موضوعُها لا التباس فيه من عنوان كتابها، بخلاف الجنس أو النوع الذي يؤطِّره، تُحيله خلافا لباقي المؤلفين، غالبا، إلى الداخل، فنقرأ تحت العنوان تجنيس أو تنويه(تجارب). وبالطبع، كل كتابة، هي بالمفهوم النقدي تجربة، أو لا تتسمّى. وإذا كان نص العراقية سالمة صالح، من قراءتنا، يحوز هذه القيمة وتتحقق فيه، فليس هذا هو القصد، قل إنه أبعد، واسم النوع إذ يخترق التجنيسَ يقترح خطةَ كتابة ويقدم بواسطتها مادتَه كمحمول متكافل جداً معه، ذلك التكافل الأمثل بين الشكل والمضمون. تعلن الخطةُ عن اسمها من البداية بنهجَ كتابة، فيما تقيم في آن مع القارئ ميثاق قراءة. مصطلح الميثاق وضعه فيليب لوجون (1975) مرتبطاً بالتعاقد الذي يبرمه المؤلف مع قارئه كأحد شروط إشهار السيرة الذاتية وكيفية تلقّيها حيث الإعلان عن ضمير متكلم موثوق به مسؤول عن بوحه وخطابه، أو ما يماثله، ينسحب هنا أيضاً على العمل الذي بين أيدينا لارتباطه بتجارب لشخصية محددة، معلنة في الغلاف، وتتحمل المسؤولية علنا في (بوْحها) وخطابها على النمط السِّيَر ذاتي، وإن لم تعلن صاحبتُه أنها ستكتب هذه السيرة، فموضوعُها معيَّنٌ في رصد تجارب، يعوِّض هذه التسميةَ إجرائيا وعمليا مُسمَّى السيرة الذاتية، ثم تتخطاها بالإنزياح عنها حين تعتمد كتابةً وهي حميمية، تتأبّى على البوح والتذويت، حيث يكون عادة للأنا النحوية حضور مركزي ينجُم عنه ويعاضده غالباً تعبير عاطفي وانثيال رومانسي.
في كتابها تتحدث، تصف سالمة صالح ما عاشته عاماً كاملاً، يوماً بيوم تقريباً، بمجرد علمها طبياً بإصابتها بالسرطان (غُدة في العنق). غداة شفائها جلست إلى مكتبها وبدأت العمل الآخر: الكتابة. إنجاز نص تصف فيه بمنتهى الدقة والحِرفية والبرود النفسي ما مرت به طيلة عام متنقلةً بين مراحل بداية المرض والفحوص الملائمة له وجميع ما يخضع له المصاب من تشخيصات وتحليلات وتقلب بين تقارير أطباء واختصاصات لتحديد دقيق للمرض وإعداد البروتوكولات العلاجية بفاعلية ونجاعة كما تمارس في المستشفيات والعيادات الألمانية، حيث الخبرة الطبية عالية، والعناية بالمريض.
مسار حياة
كانت حياة (الشخصية) عادية، وحلّ المرض فقطع المسار الطبيعي الذي كانت عليه أسرةٌ مكوّنةٌ من زوج وزوجة، بعد مغادرة الإبن الكبير؛ حلّ (العام المفقود 2013)» بدأ مع بداية السنة وانتهى في الثامن والعشرين من كانون الأول»(ص115) انقطعت فيه علاقتها كلية بما يجري في العالم من أحداث، وهي «مُعفاةٌ من الهموم اليومية والواجبات»(ن) وانصرفت مطلقاً إلى الإجراءات الطبية، إلى عالم جديد له كل أسماء القلق والرهبة والمجهول والتوقّع واليأس والأمل وكثير جداً من الألم مقابل حصص وحُقَن بلا حدود، أملاً بشفاء مرتجى. تمَّ سردُ العام مُنجّماً في37 فقرة كبيرة من حجم الكتاب (120 ص) عوض الفصول التقليدية لا تنسجم مع كتابة مخبرية ونص مجهري؛ نص مرقون بالمبضع ولغة الوصفة الطبية الباردة. نعم، إننا باقون في التراب الأدبي للسيرة الذاتية، وضمير المتكلم (=المريض) يعلن من مدخل النص عن سلطته مذ علم بإصابته (ص5)، ولن يتخلى عنها إلى النهاية بقوله:» لقد نجوت» (118).
ومن البداية دائما تُشهِر أنا المريض هويةَ الكاتبة، هي والطريقة التي ستتعامل بها مع مرضها ونفسها منهج توصيفها له تعليقا على خبر الإصابة تقول:» لم يثر لدي الخبر أيّ شعور بالخوف أو الحزن(…) لم أشعر بالصدمة ولذلك ربما لم أنطق بكلمة «خراء» الأكثر استعمالاً بالألمانية» (5). وتدخل مباشرة في برنامج الاستشفاء، يتوزع سردياً في: أولاً، وصف فضاء المستشفى أطُراً وأجنحةً وتجهيزاتٍ طبية، وعلاقات مع المحيط المستجدّ. ثانيا، مدوّنة للاختصاصات والفحوصات فالوصفات المتصلة بمراحل العلاج وتطور المراقبة الطبية. ثالثا، مدوّنة خاصة بأنواع الأدوية والتحليلات والترتيبات الروتينية لزوماً لمكافحة المرض. رابعاً، العلاقة بالأحرى انتفاء العلاقة مع العالم الخارجي نتيجة امِّحائه أمام العالم الاستشفائي وحتى امتداد هذا إليه بطيِّه تحت إبطه، فالسرطان يُعدي كل ما حوله ملحِقاً به شللَ حياة الأسرة. خامساً، وضع الجسد (المصاب) مقيَّداً بالإجراءات الصارمة لفضاء مقنن بالخضوع والألم. إن هذا الجسد كل شيء، هو الموضوع والمكان الزمان، الذات الداء، ومرتع الدواء. فلا يوجد في هذه السيرة أي إحساس بالمعنى الوجداني المبذول في كتابة النوع بالأحرى جرى لجمُه بتصعيده وعقلنته مع كل ما يمتّ إليه بصلة.
اللغة الواصفة لدى سالمة صالح مشذّبة إلى حدودها القصوى، مُصمتة، لا حشو ولا بلاغة إطلاقاً. لغة المبضَع، بالتشريح، بالرسم البياني، ترسم للسرطان في الجسم خارطة ودفتر تحملات، بمعجميته، وأرقامه، وأسماء الدواء ونسبه، من دون أي عاطفية رثة، وإن بالتماعات أسى وحنين متفاوتة، لا التأسِّي اللزج. ولا أدبيتها بمواصفات معهودة، هي بالضبط الأدبية بكلمة جامعة، كتبت سالمة صالح جسدها في طور مرضه بانفصال عن الحميمي، نفت الذات واغتربت عنها، مما ليس مألوفاً في السيرة الذاتية العربية، والأجنبية أيضاً. هي كتابة اعتمدت النزعة الاختبارية بمفهومها الفلسفي (هيوم) منها تفرعت وتحددت التجريبية كما طبقها كلود برنار أبو الطب الحديث، أخضع معارفه للتجربة بالبرهنة على النظرية والتجربة معاً.
كتبت صالح سيرة (لا ذاتية) للجسد، موضوعاً على مشرحة أطوار وبروتوكولات العلاج بتجريبية باردة، لا حدس فيها أو رجاء وبلا أي يقين، بعقلانية وحياد تام وتشييء، نجد مثيلاً له عند دوراس (الألم 1985)، وينسجم مع المحيط الغربي وثقافته حيث تعيش، وكم سيبدو مستفزاً، متنافراً مع المجتمع الشرقي ثقافةً ووجداناً ولغة. في نهاية هذا النص الاستثنائي، وقد قهرت المريضة داءها، خرج الإنسان الكاتبة من التجربة بفلسفة حياة كاملة: «هل كان ينبغي أن أعيش سبعة عقود لأكتشف هذا؟ لم أعد بحاجة إلى أكثر من مكان أقيم فيه وقليل يقيم أودي» (117). نعم، كان ينبغي، ليأتي الكتاب.
(الحياة)