مارتن هيدغر والشعْر الذي يرعى الوجود ويحميه

عبدالدائم السلامي
هل يمكن أن نوصف الحقيقة توصيفا يجعل حضورها فينا جليا؟ وكيف ندلل على ذاك الحضور ونسميه؟ وهل دور المقدس أن يصون الحقيقة ويحفظها؟ إننا نلفي لهذه الأسئلة صدى إجاباتٍ مبثوثةٍ هنا وهناك في أغلب ما كتب مارتن هيدغر (1889 – 1976) خاصة في كتابه «الكينونة والزمان». ذلك أن هذا الفيلسوف ظل يسعى إلى تقليب أشكال ورود هذه الإجابات مع المحافظة على محتواها الدلالي نفسه، حيث يتكفل المقدس في كل إجابة بإعلان حضور الحقيقة الكلي، بل وحضور الكينونة أيضا حضورا مذهلا تتكشف فيه الماهية المشتركة للكائنات وهي محمولة في حدثٍ لغوي بديع.
تكشف الحقيقة
ترتبط الحقيقة عند هيدغر ارتباطا تاما بطبيعة اللغة الكاشفة لها، ولأن اللغات البشرية متنوعة في خطاباتها، فإن ذلك يجعل من الحقيقة حقائق. ولكن هذا التنوع في قول الحقيقة لا يمنعنا من إرجاعها إلى أنواعٍ ثلاثةٍ يوصف كل نوعٍ منها كيفية من كيفيات تكشف جوهر الكائن في فضاء الكينونة: فهناك الحقيقة التي تقدمها العلوم والتقنية، ويسعى الإبداع إلى تأسيسها فنيا، وهناك الحقيقة الفلسفية التي تتكفل الفلسفات بتجليتها عبر التنوع اللامحدود لأنظمتها الفكرية، وهناك الحقيقة التي تعلن عن حضورها ضمن تجربة المقدس. ويشدد هيدغر على أن المقدس، إذ يحضر الحقيقة يمنعها من التلاشي والابتذال عبر تمكينها من قدرةٍ على الظهور والتستر في أرجاء فضائه ضمن إطار ما كان سماه «لعبة التجلي» التي تنشغل بها اللغة في فعلها القولي الذي تبني به جوهر الأحياء والأشياء.
ذلك أن الحقيقة تتجاوز التصور التقليدي عنها، وصورة ذلك هي فكرة التطابق أو التكافؤ بين العقل والشيء وفق ما قال به أرسطو ونلفي له صدى في ما بعد في أفكار ابن سينا والأب توما الأكويني، لتنهض على انفتاح الكائن على ذاته وعلى الموجودات في الوقت نفسه، لأن «أسلوب الإنسان في الوجود هو الذي يحدد أسلوبه في فهم ماهية الحقيقة، وهي بالطبع حقيقة الوجود نفسه»، وخلال هذا الانفتاح الدائم يحصل تكشف الحقيقة الأصلي. وبفضل هذا التكشف يصون المقدس الحقيقة من انتهاك التأويلات الميتافيزيقية التي «لا تطرح السؤال المتعلق بحقيقة الكينونة ذاتها، بل هي لا تتكفل أبدا بتحديد الكيفية التي تجعل جوهر الإنسان منتميا إلى حقيقة الكينونة».
ولكن المقدس، وهو يصون الحقيقة، يصون حضوره بحضورها أيضا، بسبب أنه «لا يتم التفكير في جوهر المقدس إلا عبر حقيقة الكينونة، ولا يتسنى التفكير في الألوهية إلا عبر جوهر المقدس، ولا يمكن التفكير في لفظة إله وتحديد معناها إلا في ضوء جوهر الألوهية». وظاهر أن هذا الترابط الذي يقره هيدغر بين جوهر المقدس وحقيقة الكينونة يشي بكونهما يمثلان فضاءين تخييليين مترابطين تسكنهما رغبة الكائن في التسامي والاتصال بالديني بحثا عن حقيقته واكتماله. وعليه فإن «المقدس، وهو الفضاء الأساسي الوحيد للألوهية التي تمنح بدورها أبعاد الآلهة، لا يبلغ أوج تجليه إلا عندما تتسامى الكينونة وتختبر في حقيقتها» اختبارا أنطولوجيا واعيا بحدود ترابطاتها مع كائناتها، ومتجاوزا التأمل الخالص لجوهرها، وفق ما درجت عليه الميتافيزيقيا خلال تاريخها الطويل، بل ومقوضا لجميع الثنائيات التي يتأسس عليها التفكير الفلسفي المحض، ومنها على سبيل التمثيل، الذات في مقابل الموضوع والجوهر في مقابل العرض والإنسان في مقابل الإله والأرض في مقابل السماء والأصل في مقابل الفرع والمعقول في مقابل غير المعقول.
وبمثل هذا التجاوز لمفهوم الحقيقة الذي اقترحته بشأنها الميتافيزيقا يؤكد هيدغر «محورية» الكائن في التأسيس لحقيقته، ولحقائق الموجودات من حوله في إطار علاقته بالوجود. وهي علاقة تمثل الموضوع الأساس الذي تنبع منه ماهية الحقيقة، «وهي في صميمها علاقة متعالية، تقوم على البنية التي يتميز بها الإنسان من حيث هو كائن متعالٍ أو موجود خارج نفسه، في اتصال دائم مع الأشياء. فالأصل أن الإنسان موجود «بالقرب» من الأشياء، لأنه في الأصل موجود «متخارج» أي موجود على الدوام «خارج نفسه».
ويجب أن لا تدفع بنا طبيعة هذا «التخارج» إلى القول بأن الإنسان هو الذي يخلق الحقيقة، بل علينا التأكيد على أن «الإنسان من الناحية الشكلية هو مصدر الحقيقة، لأن بلوغ الحق يتطلب موجودا قادرا على الكشف، أي موجودا منفتحا غير منطوٍ على نفسه، أو منغلق بين جدران ذاته، يملك القدرة على أن يكون ذاته وأن يكون في الوقت نفسه خارج ذاته وبالقرب من سائر الموجودات». ولكن ماذا يعني أن يكون الإنسان منفتحا على ذاته وعلى غيره؟ إن وجود الإنسان وانفتاحه الخارجي يمثلان سبيل الأشياء والموجودات إلى كشف حقائقها، وهي إذْ تظهرها، تستدعي المقدس الكامن فيها، وتمنحه القدرة على الحضور الفاعل في الفكر.
ضد التأويل التقني للفكر
يتجاوز هيدغر مفهوم اللغة السائد – ذاك الذي يقول إنها جهاز بشري يتكون من ثلاث بنيات هي البنية الصوتية التي لها رموز شكلية محددة، والبنية الإيقاعية النغمية، والبنية المعنوية، وإن حقيقة ملفوظاتها تقاس بمدى تطابق الشيء مع موضوع حكمه – إلى النظر إليها من جهة كونها كائنا حيا يحكم طبيعة علاقتنا بالأشياء، ويمكننا من بلوغ جوهرها. وبذلك يتوجب علينا، وفق ما يؤكده هذا الفيلسوف، أن «نرى في بنية اللغة الصوتية جسد اللفظة، وفي بنيتها النغمية الإيقاعية روحها وفي قيمتها الدلالية عقلها».
وبهذا تكون اللغة جهاز تراسلٍ بين الناس، وفضاء ينصهر فيه الأدب والفكر معا في فعالية بشرية واحدة وجد فيها هيدغر، خاصة في دروسه التي أنجز حول قصائد الشاعر الألماني فريدريش هولدرلين (1770-1843) سبيلا إلى بحث حضور المقدس في اللغة والأدب وعلاقة اللغة بالكينونة وبالمقدس.
ويبدو أن عودة هيدغر إلى دراسة اللغة، باعتبارها فعالية بشرية مسؤولة عن تكشف حقيقة الإنسان، كانت بسبب نمو فلسفة الاستهلاك، وتزايد رغبة الناس في تكديس البضائع (الأموال والأرصدة والاحتياطيات) خلال خمسينيات القرن الماضي، وهو ما جعل الإنسان يتحول إلى مستهلك لمنتوجاته، ومستهلكٍ في الوقت نفسه بتنامي حاجاته، ودفع اللغة إلى الجريان في خضم التطور التقني الحسابي وما فرض عليها فيه من تغاضٍ عن دورها في تصنيع المعنى الشعري لساكنات هذه الأرض، وبذلك صارت «الكينونة، بوصفها عنصرا من عناصر التفكير، مهجورة بفعل التأويل التقني للفكر». ومن ثمة أكد هيدغر ضرورة تجاوز وظيفة اللغة الإشارية التقنية الباهتة، إلى وظيفة تعيين الأشياء وإيجادها من جهة كون اللغة الشعرية هي القول المناسب لاستحضار الكينونة في حقيقتها. ولا يتحقق هذا التجاوز إلا متى تم «تحرير اللغة من ارتباطاتها النحوية، عبر تمكين عناصرها من تمفصلاتها الأصلية، وهو أمر موكول إلى الفكر والشعر»؛ لأن الكلمة، وهي تتخلق لدى الشاعر في شكل برقٍ خاطفٍ، تستدعي الكينونة وتنير حضورها وتصنع معناها الأصيل، كما تنير عتمات «الأنا» الإنساني عبر تحريره من مألوف ارتباطاته اليومية، والانفتاح به على علاقات جديدة صافية مع الكائنات في إطار ما تبيحه التجربة الشعرية من قدرة على بلوغ الجوهر في كل شيء.
فاللغة، في معناها الذي يؤسس له هيدغر، هي الجوهر الشعري للكينونة. وهي بهذا المظهر، تمثل الحقل الذي يتساوى فيه كل ما هو شعري مع كل ما هو فلسفي، فلا يعود الفكر مجرد نشاط عقلي ولا ينظر إلى الشعر على كونه نشاطا تخييليا واهما.
وفي إطار هذه المقاربة يؤكد هيدغر على أن «الإنسان ليس كائنا حيا يمتلك، بالإضافة إلى قدراته الأخرى، قدرة اللغة، بل إن اللغة هي بيته الذي يسكن فيه ويحقق داخله كينونته» بل إن «اللغة هي بيت الكينونة، في حماها يسكن الإنسان. والمفكرون والشعراء هم من يتكفلون بالسهر على هذا الملاذ، سعيا منهم إلى استحضار الكينونة وتكشفها في منجزات القول». ولعل هذا ما يميز لغة الشعر عن الميتافيزيقا، ذلك أن «في هذه اللغة يحدث فعل التسامي، وهو تحول محمولات اللغة من مجال الشيئية إلى مجال الحضور الواعي، ومن حيز الموضوع إلى فضاء الموضوعية، وفي أثناء هذا التحول يتم استدعاء حقيقة الكينونات، وهو ما لا تستطيعه الميتافيزيقا»، ومن ثمة تتجلى وجاهة تكرار هيدغر عبارة «إن الشاعر هو راعي الوجود وحامي بيته».
(القدس العربي)