تطويبات الألم والموت في قصائد محمد ناصر الدين

أنطوان ابو زيد

من فضائل الكتابة النقدية التي تحاول الإمساك ببعض خيوط الشعر، وإن عبر عجالات لا تفي العمل الأدبي حقّ قدره، لمحدودية المقالة وراهنيتها السريعة في آن، أنها تمدّ الكاتب المتتبّع، شأني، بمقدار من الأمل بتنامي الإبداع شعراً وقصة ورواية ومسرحاً، وبروز كتّاب وشعراء وروائيين يخطّون مكانتهم عملاً بعد عمل. ومن هؤلاء الشاعر محمد ناصر الدين، الذي بات له في رصيده خمس مجموعات شعرية: «صلاة تطيل اللوز شبرًا» ( 2012)، «ركلة في قرية النمل» (2013)، «ذاكرة القرصان» (2014)، و «سوء تفاهم طويل» (2015)، إضافة الى كتابه الأخير «فصل خامس للرحيل» (لو شئتُ الكلام على بعض مظاهر العمل الشعري الأخير، وافتراض أنها دالّة على كتابة محمد ناصر الدين الشعرية، لقلت إنّ أهمّها وجهة النظر، أي الزاوية التي ينظر من خلالها الى موضوعة أو ثيمة معيّنة، والتي تكشف عن ثقافة عميقة وتجربة مختمرة واتّجاه شعري مدرك الحدود بين المذاهب والعوالم الشعرية المتأثّر بها (رومنسية عدمية، وشعريات واقعية وسوريالية، غربية وشرقية) وبين عالمه الشعري الذي يخرج من إهابه (هندسة الطب) ومن جراحاته الشخصية وصلته الحميمة بالكائنات التي تشبه الى حدّ ما صلة الطفل ذي الأنوية الإحيائية بالشجر والحيوان والأمكنة الطبيعية.
وحين أقول إنّ الشاعر محمد ناصر الدين يصدر عن وجهة نظر خاصّة به لا أقصد الى الإيحاء بآلية الإسقاط (الأيديولوجي) على موضوعات شعره، وإنما لأشير الى أنه، وإن صدر كلامه عن رؤية فكرية مثقلة، فإنه يذهب اليها (موضوعات) مخففاً الى حدّ شبيه بالهزال: فمن كلامه على «المشافي» وما يستدعيه من تأمل في المصير البشري («جماجمنا») وخيبات الفرد، وتناوب الأمراض عليه،ونومه «إلى الأبد/ تحت الأغطية البيضاء»، إلى أغنيتيه الشجيتين للمصلوب اللتين يستعير فيهما نبرة طفولية بريئة من أجل أن يخطّ رسالة عن دوام الألم واجتراح الأعجوبة المستحيلة «أن أمشي مثلك فوق الماء/ خلف بطة صغيرة».
ولا تقتصر رؤية الشاعر محمد ناصر الدين على تطويب الألم المادي، الماثل في العيادة والمشفى والمصل وإنما تتعدّاه الى تسليط الكاميرا الشعرية على ما تقترفه الحرب بحقّ الأطفال «وكيف يحدّق الأطفال المقتولون بعيون قاتليهم»، وعلى الموت كظاهرة موازية للحياة وحاثّة عليها («ثمة أشياء بمنتهى الجدية/ يفعلها الموتى في الأسفل:/ الغناء ليهمد البركان/ الزفير لتخرج الوردة…» ص:53) وعلى الموت كواقع لا ترضاه الذات وتظلّ تأسى منه، على رغم النبرة التهكّمية الكامنة تحت الكلام الشعري، والذي يوازي فيه الشاعر بين نوعين من الحياة؛ «تصاميم لحياة مكتملة أولى: زيتونة، مكتبة، مدينة حزينة، مقبرة مزدحمة، تصاميم لحياة مكتملة ثانية: وردة، كنيسة، خاتم خطبة، سرطان في الرئة/ يصعد الموتى في السماء أكثر قليلاً…» «حين نُدفن غداً/ سيكون دوماً بستانيون جيدون/ نتبخّر/ نرتّب فصلاً خامساً للرحيل».
الى ذلك كله، ثمة كلام على الحب، والشعر والصمت جدير بالتوقف عنده، والهذيان والموسيقى وغيرها من الموضوعات التي يأبى الشاعر إلا فتح باب التأويل على مصراعيها فيها. ولكن أمانة للشعر وكينونته لا بدّ من الحديث عن لغة الشاعر، وبالأحرى عن أهم عناصر كتابته الشعرية التي تبدّت لنا في كتابه الأخير.
أولاً- اللافت في كتابة محمد ناصر الدين هذا الاقتصاد الشديد بالكلمات، بل بالمعجم الدالّ على عالمه الذي سبقت الإشارة اليه (معجم الأعضاء البشرية، معجم الحيوان، معجم الحياة/ الموت، الخ). وهذا يعني أنّ مفردات عالمه، وإن بدت ذات أهمية واضحة في بناء قصيدته، فإنّ إدماجها في صور شعرية فريدة، بغالبيتها العظمى، هو ما يرفع الفكرة الى مرتبة الأيقونة، والمشهد الى مرتبة القصيدة الغنائية العالية، وتلبث في ذهن القارئ مدى طويلاً.
ثانياً– واللافت الآخر في كتابة محمد ناصر الدين هذا التأنّي في رصف قصيدته، وبنائها، جملة شعرية ذات مدى أفقي تام، إثر جملة شعرية، سواء بتقنية التداعي والتداخل– وهي الغالبة في الكتاب– من مثل: «تقول الأم حين تتلو صلاتها/ فوق إبر المورفين/الرب. في الوحي/ تصلي الأم بكثرة….» أو بتقنية التكرار، وهي الأقلّ وروداً في قصائده: «موعد أول في صف القراءة/ موعد ثانٍ للرقص…/ موعد ثالث لعزاء…».
ولكنّ الشاعر البنّاء والحرفيّ لا يترك مداميكه على هيئاتها الأولى التي تأتيه بفعل المراس أو سعة الاطّلاع إنما يعمد دوماً الى كسر ما فيها من توازٍ فجّ أو تكرار أبلق، بما أوتي من قدرة على التلاعب وقلب المواضع وتبديل الصفات والأصوات طمعاً بتكثير الإيحاء، على ظاهر بساطة كلية. محمد ناصر الدين قامة آخذة بالتألق، لنقرأه.2017) الذي نتناوله بالحديث وهو صادر عن دار النهضة العربية

 

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى